مينا صلاح يكتب : رحلتى مع صديقى ماسح الأحذية من قلوب مسحت منها الإنسانية

مقالات الرأي

مينا صلاح يكتب :
مينا صلاح يكتب : رحلتى مع صديقى ماسح الأحذية من قلوب مسحت م

تبدأ القصة عندما كنت جالسا بكافيتريا محطة قطارات الأقصر، منتظرا القطار المتجهة إلى محافظة القاهرة، وذلك بعد أن قضيت اياما من اجمل ومن اروع ايام حياتى هناك.


فجأة وأنا أدخن سيجارتى وأنتظر القطار، جاء عامل الكافيتريا ينادى، يا بيه يا بيه قطر القاهرة وصل ، فسرعان ما أنهيت مكالمتى وجمعت حقائبى وسألته كم الحساب ، فأجابنى جنيهان فقط، فأعطيته خمسون جنيها ورد لى الباقى.


ظللت انتظر الركاب ينزلون من القطار كى اجلس بالعربة السادسة، وأنا أهمس فى نفسى السكة ستتخذ إثنى عشر ساعة ، ركبت القطار ووضعت حقائبى فى المكان المخصص، ,بدأ القطار فى الإقلاع، فنظرت على المقعد المجاور لى فوجدت شاب ملتحى يبدو على وجهه مكارم الأخلاق، تطرقت فى الحديث معه إلى عدة مواضيع دينية وعقائدية وسياسية، بكل أدب وأحترام.


أخرج الشاب من حقيبته جهاز لاب توب، فقلت فى نفسى الحمد لله وجدت ما يسلى طريقى ، وبدأ يشرح لى كيف يعمل على برنامج الأتوكاد، فهو مهندس مساحة، واتخذنا نتناقش كثيرا حول الهندسة، كما قام بعرض فيلم تسجيلى عن الحرب العالمية الثانية، ونهاية بدأ يعرض الشاب ملفات عن إعجاز الخالق سبحانه، وعن نشأة الأرض.


وفجأة نظرت خلفى وجدت طفلا لا يتجاوز من العمر 12 عام، ينظر إلى عروض اللاب توب بإندهاش وكأنه لم يتعامل مع التكنولوجيا من قبل، ولم أعطه اى اهتمام، وأكملت حديثى مع صديقى الملتحى، وبعد مرور ساعتين، نظرت خلفى فوجدت هذا الفتى أيضاً نائما على ارضية القطار خلف كرسىُ ، فانا كنت جالسا فى آخر كرسى من العربه، ويبدو على وجهه ملامح الإرهاق والشقى، فهو نحيف قصير القامه أسمر اللون، مبتسم الوجه، فناديته ما اسمك، قال لى أسمى محمد، فسألته ومع من تأتى قأجابنى مع نفسى، قولت له وماذا تعمل قال قى ماسح احذية ، قلت له واين تنام قال لى فى أى حديقة.


كنت جالبا معى بعض الحلوى والمغلفات والعصير فى القطار فقمت بإطعامة، فشكرنى، قمت بإعطاءه جنيها فرفض حاولت معه فقبله، تطرقت فى حديثى معه، فعرفت إنه لديه أسرة من أب وأم منفصلين، الأب مهندس ديكور ومتزوج، والأم ربة منزل ومتزوجة، فسألته ولماذا تركتهم، أجابنى بسبب قسوتهم، وتفضيل ابناءهم الآخرين على، أخذنا الحديث وفجأة شعرت ببرودة الجو وإذ كان يمر وقتها بائع الشاى فناديته وأحضرت ثلاثة أكواب واحدة لى والثانية للملتحى و الأخرى لماسح الأحذيه، ثم أحضرنا غداء واطعمناه، وعند دفع الحساب أكتشفت أن عامل كافيتيريا المحطة قد اعطانى 28 جنيه بدلا من 48 جنيه باقى حساب الشاى، مستغلا بذلك اندفاعى بسرعة نحو القطار، فهست فى نفسى، ربنا يسامحه أكيد كان محتاجهم وهو شكله مرتبه ضعيف .


نظرت إلى الفتى فوجدته ساكنا، فسألته لماذا لا تمر بصندوقك تسمح الأحذية فى القطار فأجابنى ، الناس مش عايزة تمسح، وانا بشتغل عشان ألأكل وادينى أكلت .


نظرت إلى ملامح وجهه بتمعن فوجدته طفلا بريئا جميلا، يحلم بغد مشرق، شعرت أنه بحاجه إلى الراحة فجعلته يجلس مكانى بعض الوقت ليريح جسده النحيل، وأخذت أدردش معه، فعرفت إنه سيتجه إلى الأسكندرية ليمسح الأحذية هناك، وأنه سينام فى إحدى المراكب المتهالكة على إحدى الشواطئ.


وفجأة حضر رئيس القطار بمعاونة مساعدة وسألوه عن التذكره، فتردد الطفل خائفا، فقلت لهم هذا الصبى لم يحضر تذكره لأنه ماسح أحذية على باب الله ، فقام رئيس القطار بضربه وخبط رأسه فى الباب الحديدى ولطمه، مما جعلنى اندفع نحوه بقوة وارفع صوتى بجهاشة فى وجهه، قائلا ، ما هذا الجهل والتخلف الذى تفعله لا تعدى عليه، كم تريد؟ فأجابنى 45 جنيه فقمت بأعطائه المبلغ وأخذ الصبى تذكرته وجلس باكيا، فقلت له لا تبكى لا يوجد هنا من هو أفضل منك، فعاد الرجل مره اخرى قائلا خد فلوسك بقى يا بيه والواد ده هناخده نربيه ، وكأنه شعر بالنقص، فقلت له، على جثتى، أقولها لك صراحة سأجعل أيامك سواد ونهارك لن تشرق عليه شمس إن أخذته ولن تأخذه منى إلا بتحرير محضر رسمى، وبوجود رئيس مباحث محطة قطار عمومية، فجاء معاونه وقال لى يا بيه ما تتعبش نفسك دى أشكال وسخه قلت له كل ما يعنيك هنا هو التذكرة فقط أخرس، .


وأنهيت الموضوع وأخذت أنصح فى الفتى كى يعود إلى أهله، وبالفعل أقنعته، وأعطيته بعض المال، لكى يركب من القاهرة إلى كفر الزيات، ويأكل خلال رحلته، وأحضرت له آيس كاب ، نظرا لبرودة الجو وقتها وأعطيته رقمى وقلت له إن اردت أى شيئ أتصل بى.


وعند نزولى من القطار وسط التزاحم وجدت تحت قدمى مائتان جنيه مطبقه صغيرا، فابتسمت وقلت فى نفسى هل الله يسدد لى فاتورة الطفل الصغير؟!. وتعجبت وأخذتها ومضيت.


الرحمة جزء لا يتجزء من إنسانية الفرد، أرحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء، وكونوا رحماء كما أن ابيكم رحيم.


شعرت أن المائتان جنيه لم تكن مجرد صدفه بل كانت مجرد رسالة من الله تقول لى شكرا .

لا تتعالوا وأزرعوا وأنشروا الحب و السلام بينكم، ودائما أجعلوا فى حافظة نقودكم جزء مخصص لإخواتنا فى الإنسانية ساكنى الشوارع والأرصفة.