ولاء الدين بدوي يكتب: في ذكرى اغتيال والي مصر عباس حلمي الأول
عباس باشا الأول (1 يوليو 1813 - 13 يوليو 1854)، حاكم مصر بين عامي 1848 - 1854، وأحد حكام الأسرة العلوية التابعة اسميا للدولة العثمانية، ويعتبر البعض عهده عهد رجعية وقفت فيه حركة التقدم والنهضة التي ظهرت في عهد جده محمد علي باشا.
وهو ابن أحمد طوسون باشا بن محمد علي باشا. لم يرث عن جده مواهبه وعبقريته، ولم يشبه عمه إبراهيم في عظمته وبطولته، بل كان قبل ولايته الحكم وبعد أن تولاه خلوًا من المزايا والصفات التي تجعل منه ملكًا عظيمًا يضطلع بأعباء الحكم ويسلك البلاد سبيل التقدم والنهضة. ولد بمدينة جدة عام 1813 ثم انتقل لاحقًا إلى القاهرة، بذل جده محمد علي شيئا من العناية في تعويده ولاية الحكم إذ كان أكبر أفراد الأسرة العلوية سنًا وبالتالي أحقهم بولاية الحكم بعد عمه إبراهيم باشا، فعهد إليه بالمناصب الإدارية والحربية. فتقلد من المناصب الإدارية منصب مدير الغربية، ثم منصب الكتخدائية التي كانت بمنزلة رآسة الناظر. ولم يكن في إدارته مثلًا للحاكم البار بل كان له من التصرفات ما ينم عن القسوة وكان يبلغ جده نبأ بعض هذه التصرفات فينهاه عنها ويحذره من عواقبها ولكن طبيعته كانت تتغلب على نصائح جده وأوامره.
ومن الجهة الحربية اشترك مع عمه إبراهيم باشا في الحرب في الشام، وقاد فيها إحدى الفيالق، ولكنه لم يتميز فيها بعمل يدل على البطولة أو الكفاءة الممتازة. وبالتالي لم تكن له ميزة تلفت النظر، سوى أنه حفيد رجل أسس ملكًا كبيرًا فصار إليه هذا الملك، دون أن تؤول إليه مواهب مؤسسة، فكان شأنه شأن الوارث لتركة ضخمة جمعها مورثه بكفاءته وحسن تدبيره وتركها لمن يخلو من المواهب والمزايا. وكان عمه إبراهيم باشا لا يرضيه منه سلوكه وميله إلى القسوة، وكثيرًا ما نقم عليه نزعته إلى إرهاق الآهلين، حتى أضطره إلى الهجرة لمكان ولادته جدة وبقى هناك إلى أن داهم الموت عمه إبراهيم باشا.
تولى الحكم لمدة خمس سنوات ونصفًا، وكان يبدو خلالها غريب الأطوار، شاذًا في حياته، كثير التطير، فيه ميل إلي القسوة، سيئ الظن بالناس، ولهذا كان كثير ما يأوي إلى العزلة، ويحتجب بين جدران قصوره. وكان يتخير لبنائها الجهات الموغلة في الصحراء أو البعيدة عن الأنس، ففيما عدا سراي الخرنفش وسراي الحلمية بالقاهرة، حيث بني قصرًا بصحراء الريدانية التي تحولت إلى العباسية أحد أشهر أحياء القاهرة والتي سميت من ذلك الحين باسمه، وكانت في ذالك الوقت في جوف الصحراء، وقد شاهد الميسو فرديناند دي لسبس هذا القصر سنة 1855 فراعته وضخامته وذكر أن نوافذه بلغت 2000 نافذة، وهذا وحده يعطينا فكرة عن عظمة القصر وإتساعه، فكأنه بني لنفسه مدينة في الصحراء، كما بني قصرًا أخر نائيًا في الدار البيضاء الواقعة بالجبل على طريق السويس ولا تزال أثاره باقية إلى اليوم. وقصر بالعطف، كما بني قصرًا في بنها على ضفاف النيل بعيدا عن المدينة، وهو القصر الذي قتل فيه.
وقد أساء الظن بأفراد أسرته وبكثير من رجالات محمد علي باشا وإبراهيم باشا وخيل له الوهم أنهم يتآمرون عليه فأساء معاملتهم وخشي الكثير منهم على حياتهم فرحل بعضهم إلى الأستانة والبعض إلى أوروبا خوفًا من بطشه، واشتد العداء بين الفريقين طول مدة حكمه. وبلغ به حقده على من يستهدفون غضبه إنه حاول قتل عمته "الأميرة نازلي هانم"، واشتدت العداوة بينهما حتى هاجرت إلى الأستانة خوفًا من بطشه. وقد سعي في أن يغير نظام وراثة العرش ليجعل إبنه "إبراهيم إلهامي باشا" خليفته في الحكم بدلًا من عمه محمد سعيد باشا ولكنه لم يفلح في مسعاه ونقم على عمه سعيد الذي كان بحكم سنه وليًا للعهد واتهمه بالتآمر عليه، واشتدت بينهم العداوة حتى أضطره إن يلزم الإسكندرية وأقام هناك بسراي القباري.
وانتشرت الجاسوسية في عهده انتشارًا مخيفًا، فصار الرجل لا يأمن على نفسه من صاحبه وصديقه، وكان من يغضب عليه ينفيه إلى السودان ويصادر أملاكه. وكان نفي المغضوب عليهم إلى أقصى السودان من الأمور المألوفة في ذلك العصر. وكان مولعًا بركوب الخيل والهجن، ويقطع بها المسافات البعيدة في الصحراء، وله ولع شديد باقتناء الجياد الكريمة حيث كان يجلبها من مختلف البلاد ويعني بتربيتها عناية كبرى، وبني لها الاصطبلات الضخمة وأنفق عليها بسخاء شأنه شأن هواة الخيل.مميزةمن
يختلف عهد عباس عن عصر محمد علي، فان حركة النهضة والتقدم والنشاط التي امتاز بها هذا العصر قد تراجعت كما قلنا في عهد عباس، وهناك ظاهرة أخرى للفرق بين العهدين، ذلك أن محمد على كان يستعين بذوي العلم والخبرة من الفرنسيين في معظم مشاريع الإصلاح، لكن ( عباس ) لكونه لم يفكر في تعهد هذه الإصلاحات أقصى معظم هؤلاء الخبراء وأستغني عنهم، وقد تضائل النفوذ الفرنسي في عهده، ولم يعد إلى الظهور إلا في عهد سعيد باشا، ومن هنا نعرف سببا لتحامل كثير من المؤرخين والمؤلفين الفرنسيين على عباس، فانه وان كانت أعماله لا تدعو إلي الإطراء، لكنا نعتقد أن إحكام الفرنسيين عليه لا تخلو من التحامل، لتأثرهم من تضاؤل النفوذ الفرنسي في عهده، من أجل ذلك نراهم يكيلون المدح جزافا لسعيد باشا، ونعتقد أن هذا راجح إلى ميوله الفرنسية وعودة النفوذ الفرنسي إلى مصر في عهده، علي يد المسيو فيردنان دلسبس وأمثاله ممن اتخذهم سعيد بطانته وأولياءه.
فعباس إذن قد أقصى عنه الخبراء من كبار رجال الموظفين الفرنسيين فلم يعد لهم نفوذ لديه، بل لم يكن يعاملهم معاملة عطف واحترام، وأستغني عن خدمة بعضهم، وعلي العكس، بدأ النفوذ الإنجليزي في عهده علي يد المستر ( مري ) القنصل البريطاني في مصر ووقتئذ، فقد كان له هليه تأثير كبير، وله عنده كلمة مسموعة.
وكان عمه إبراهيم باشا لا يرضيه منه ميله إلى القسوة ونزوعه لإرهاق الآهلين، حتى اضطره إلى الهجرة للحجاز فلما مات عمه إبراهيم استدعى ليخلفه في الحكم في ٢٤ نوفمبر ١٨٤٨، وظل في الحكم لخمس سنوات ونصف، أساء خلالها الظن بأفراد أسرته وبكثير من رجال جده وعمه وخيل له أنهم يتآمرون عليه فأساء معاملتهم وخشى الكثير منهم على حياته فرحل بعضهم إلى الأستانة وأوروبا خوفًا من بطشه، وكان أيضا خلال فترة حكمه يبدو غريب الأطوار شاذًا في حياته كثير التطير سيئ الظن بالناس، ولهذا كان كثير ما يأوى إلى العزلة، ويحتجب بين جدران قصوره التي كان يتخير لبنائها الجهات الموغلة في الصحراء بعيدا عن العمران، ففيما عدا سراى الخرنفش وسراى الحلمية بالقاهرة، بنى قصرًا بصحراء الريدانية التي تحولت إلى العباسية فيما بعد، وكانت قبل ذلك في جوف الصحراء، كما بنى قصرًا آخر على طريق السويس وقصرًا في بنها على ضفاف النيل، وهو القصر الذي قتل فيه «زي النهارده» في ١٣ يوليو ١٨54م
ووفقا لما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل ج1"، فإنه لدينا في مقتل عباس روايتان إحداهما ذكرها إسماعيل باشا سرهنك في كتابه "حقائق الأخبار عن دول البحار.. الجزء الثاني"، والأخرى ذكرتها مدام أولمب إداور كما سمعتها في مصر في أوائل عهد إسماعيل ودونتها في كتابها "كشف الستار عن أسرار مصر"
فإن عباس كانت له حاشية من المماليك يقربهم إليه ويصطفيهم، ويتخذ منهم خواص خدمه ويغدق عليهم الرتب العسكرية العالية على غير كفاءة يستحقونها، حتى حاز أكثرهم رتبة قائم مقام، وكان له كبير من خاصة غلمانه يسمى "خليل درويش بك" وعرف فيما بعد باسم "حسن بك الصغير"، وقد أساء هذا الرئيس معاملة أولئك المماليك، فاستطالوا عليه بالغمز واللمز فسخط عليهم وشكاهم إلى مولاه "عباس"، فأمر بجلدهم وجردوا من ثيابهم العسكرية، وأرسلهم إلى اصطبلات لخدمة الخيل.
"عز ذلك على مصطفى باشا أمين خزانة عباس، لأنهم كانوا من أتباعه المقربين فسعي بجهده لدي عباس ليعفو عنهم وبعد محاولات أصدر أمرا بالعفو عنهم وردهم إلى مناصبهم فجاؤا إلى بنها ليرفعوا واجب الشكر للأمير ولكنهم اضمروا الفتك به انتقاما لما وقع بهم، فائتمروا به مع غلامين آخرين من خدم السراي، يدعى أحدهما عمر وصفي، والآخر شاكر حسين، واتفق الجميع على قتله".
كان من عادة عباس عند نومه أن يقوم على حراسته غلامان من مماليكه، وكان الغلامان المذكوران (وصفي وشاكر حسين) يتوليان حراسته، فجاء المؤتمرون في غسق الليل على اتفاقهم معهم، وفتحا لهم الباب فدخلوا غرفة الامير وهو نائم ولما أرادوا الفتك به استيقظ، وحاول النجاة فصده عمر وصفي وتكاثر عليه المتآمرون وقتلوه ثم اوعزوا للغلامين بالهرب فهربا".
وعن الرواية الأخري في مقتل عباس باشا، والخاصة بما ذكرته مدام أولمب إداور في كتابها "كشف الستار عن أسرار مصر"، فتقول بأن الأميرة نازلي هانم، عمة عباس باشا، هي التي ائتمرت به وهي في الاستانة وكلفت مملوكين من أتباعها لقتله واتفقت معهم على أن يعرضا أنفسهم في سوق الرقيق بالقاهرة، كي يشتريهما عباس ويدخلهما في خدمته، وبالفعل رآهما يوما وكيل الأمير فاشتراهما وأدخلهم سراي مولاه في بنها.
وأعجب بهما عباس باشا وعهد إليهما بحراسته ليلا، وتقول مدام أولمب إداور: "فلما كانت الليلة الأولى لم يجرؤ المملوكان على ارتكاب القتل لأنهما خشيا بأس عباس، فانقضت الليلة الأولى بسلام، ومرت أيام عدة حتى جاءت نوبة حراستهما الثانية لمولاهم عباس فلم يكد يستغرق في النوم حتى انقضا عليه وقتلاه، ولم يدعا له الوقت ليصيح أو يقاوم".
وتتابع: "ولما ارتكبا الجريمة نزلا إلى اصطبلات الخيل الملحقة بالسراي وطلبا من السائس أن يجهز لهما جوادين بحجة أن الباشا يطلب حاجة له من قصره بالعباسية، فلم يشك الخادم في الأمر وجهز لهما الحوادين فسارا بهما عدوا إلى القاهرة ومن هناك فرا إلى الآستانة. ومن هنا نجد أن الروايتين ومع اختلافهما في بيان المحرضين على القتل وطريقة ارتكاب الجريمة إلا انهما متفقتان في ان عباس باشا، مات مقتولا إثر مؤامرة نفذت في قصره ببنها.
الدكتور ولاء بدوي - مدير عام متحف قصر الأمير محمد علي بالمنيل