عادل حمودة يكتب: ثورة يوليو بالحبر السرى ملك وعشر نساء
قرينة مكرم عبيد رشحتها زوجاً للنحاس.. وزعيم الوفد لم يكن متحمساً حتى رآها وشهر العسل كان قبل لقائه هتلر
سفير مصر فى برلين لاحظ جنون رئيس الوزراء بعروسه الشابة وسيطرتها عليه من البيت إلى الحزب
زينب الوكيل.. امرأة «مربربة» سحقت زعيم الأمة ونسفت حزب الأغلبية
شقيق زوجة رئيس الوفد تورط فى تهريب السلع من مصر خلال الحرب العالمية الثانية و«زينب» تدخلت لحماية أقاربها الذين صدروا الذهب لبلاد عربية
تقرير بريطانى سرى: زوجة النحاس استقلت عربة قطار ممتلئة بالسبائك الذهبية بصحبة شقيقها وشريكه فى طريقهم إلى فلسطين
عايدة قرينة مكرم عبيد اختارتها للنحاس رغم فارق السن بينهما يصل إلى 33 سنة
إسماعيل صدقى حاول اقتحام عوامة النحاس لضبطه مع صحفية إيطالية والحرس الحديدى دبر ثلاث محاولات لاغتياله
حسب تقارير السفير البريطانى: استغلت زينب الوكيل حصانة زوجها وهربت هى وشقيقها الذهب والماس إلى فلسطين لبيعه بسعر أعلى
يوم حريق القاهرة كان الباشا يقص أظافره فى عملية باديكير ومونيكير قامت بها مدام جورجينا
بضغط منها وافق على تشكيل حكومة طوارئ بأمر الإنجليز فى 4 فبراير 1942
فضائحها أقنعت مكرم عبيد بالانشقاق عن الوفد وتقسيم الحزب واستجواب الكتاب الأسود الذى مس النحاس وقرينته
كانت أمنيته الملحة التى فوجئ بها فاروق: الانحناء وتقبيل يده
دخل فى حوار مباشر مع جسدها.. فك شفرته من اللمسة الأولى.. عرف كيف يتهجاه حرفا حرفا.. ووضع النقاط فى مكانها الطبيعى.
لكن.. الزمن لم ينصفه.. لم يستره.. حطم بوصلته.. ثقب قاربه.. مزق أشرعته.. وبنى جدارا بينه وبين فراشها.
لم تسعفه زعامته السياسية.. لم تنقذه شعبيته الطاغية.. لم تشفع له كلمات العشق التى حفظها من قصائد أم كلثوم.. فى النهاية أدرك أن ما يحدث وراء الأبواب المغلقة لا سلطة عليا عليه إلا لمن يقدر ويسيطر ويتحكم فى جسده.
هكذا فرض فارق السن نفسه على صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس (باشا) بعد خمس عشرة سنة من زواجه من صاحبة العصمة زينب (هانم) الوكيل.
كان فارق السن بينهما يقترب من ثلاثة وثلاثين سنة.. كان عمره 56 سنة عندما تزوجا فى عام 1935.. أما هى فكان عمرها 23 سنة.. ورغم جمالها الجذاب وذكائها اللافت وتعليمها الراقى وعائلتها الثرية تحمست للاقتران به.. كأن الدنيا بدونة كذبة كبيرة.. أو تفاحة فاسدة.. أو عملة مزيفة.
أما هو فوجد فيها ما يخلصه من ملوحة شفتيه.. وتكلس مفاصله.. وإعاقة مشاعره.. وبها استرد ذاكرته المفقودة مع النساء.
وأول جملة حب باح بها كانت مثيرة للدهشة: أريد أن أشرب معك شاى الصباح يا هانم.
وجاء الجواب مصحوبا بدلال أنثوى موح: لن تحتاج إضافة السكر إليه يا باشا.
اكتشف زعيم الأمة أن للحياة معها مذاقا ممتعا لم يجربه.. بل.. لم يتخيله.. وحتى يعوض ما فاته استسلم إليها.. وضبط ساعته على إيقاع خطواتها.. ورسم خريطته على رائحة عطرها.. وحدد ساحة سمعته على مقاييسها.. ورهن تاريخه وحاضره ومستقبله مقابل خاتم من الماس تضعه فى إصبعها.. أو معطف من الفراء يتدلى على كتفيها.. أو مئات من فدادين الأراضى الزراعية تضيفها إلى عزبتها.
بل ودون أن تقصد كان ما فعلت به سببا مباشرا يصعب تجاهله لسقوط الملكية التى بدأها محمد على (باشا) الكبير فى عام 1805.
إن زينب الوكيل واحدة من نساء السرايات اللاتى جعلن من ثورة يوليو فعلا إجباريا لا يمكن تجاهله أو الفرار منه.
كان زواج النحاس منها زواجا سعيدا فى سنواته الأولى.. ولكن.. ما تلى من سنوات جاء بتصرفات سياسية وشخصية منها صدمت السواد الأعظم من الشعب المؤمن به إلى حد اعتباره صاحب كرامات مثله مثل أولياء الله الصالحين.
كانت ضريبة الحب أكبر من أن يدفعها العجوز من جسده فدفعتها الدولة من خزائنها.
لكن الحقيقة أن النحاس لم يفقد عذريته ليلة زواجه من زينب الوكيل وإنما فضتها حسب محمد حسنين هيكل فى كتاب: سقوط نظام صحفية إيطالية يظهر أنها كانت على شىء من الجمال اسمها فيرا (لم يكن فى السجلات اسمها كاملا).
طبقا للروايات (الموثقة) فإن لقاءات النحاس بها تكررت وفى بعض الشهادات أنها كانت مدسوسة عليه بتدبير من إسماعيل صدقى (باشا) رئيس الوزراء فى ذلك الوقت (عام 1932) وكان قصده الإيقاع بزعيم الوفد بموافقة الملك فؤاد والوسيلة كشف المقابلات المتكررة بين النحاس وفيرا فى لحظات حرج تشوه سمعته.
كان النحاس يقابل فيرا فى عوامة على النيل عند شاطئ العجوزة المقابل لنادى الجزيرة ورتب صدقى لمداهمة يقوم بها البوليس للعوامة ومفاجئة من فيها بما لا يتوقعون.
وكان ذلك بعد ظهر يوم أحد وتصادف وجود أحمد ماهر باشا فى سباق الخيل فى نادى الجزيرة وحدث أن تقابل مع (رجل الأعمال) أحمد عبود باشا وإذا هو يفهم منه أن رئيس الوفد على وشك أن يقع فى الفخ وأدرك أحمد ماهر خطورة الموقف وهرع مسرعا إلى موقع العوامة وكان يعرفه واقتحم طريقه إلى داخلها والنتيجة أنه عندما وصل البوليس كان رئيس الوفد جالسا فى صالون العوامة يتحدث مع واحد من أكبر معاونيه فى قيادة الوفد هو أحمد ماهر.
فيما بعد نشرت حفيدة فيرا صفحات من مذكرات جدتها نفت فيها أنها كانت أداة فى يد صدقى لتشويه سمعة النحاس بل إنها وصفت صدقى بالديكتاتورية الذى اشتهر بالقسوة مع المعارضة ونال من حرية الصحافة وقيد حركة الأحزاب ووصفت سياسته بسياسة الحديد والنار.
أما النحاس فكان بالنسبة إلى فيرا رجل كبير فى السن وقعت فى هواه مستسلمة لعقدة إلكترا (عقدة حب الأب) التى تعانى منها.
بالنص كتبت فى دفتر يومياتها: شعرت معه بحنان مفقود رفعنى إلى الغيوم العالية بعد أن أسقطنى كثير من الرجال على الطرق الوعرة فلم تنج خلية واحدة من انفجار الدم.
ولعل الفضل يعود إليها فى نشر سيرة النحاس فى أوروبا حيث اهتمت بتفاصيل دقيقة عن حياته لم تكن معروفة فى مصر.
ولد النحاس فى سمنود (محافظة الغربية) يوم 15 يونيو 1879.. والده تاجر أخشاب ميسور الحال.. بدأ تعليمه فى كتاب القرية.. لكن عائلته أرادت أن يعتمد على نفسه.. أرسلته للعمل فى مكتب للتغراف بعد تخطيه العاشرة.. أتقن فك الرموز وطرق الإرسال والاستقبال بمهارة لفتت الأنظار.. اقتنع والده بحقه فى التعليم حتى أعلى مستوى.. أرسله إلى القاهرة ليبدأ من المدرسة الابتدائية إلى أن تخرج فى مدرسة الحقوق عام 1900.
عمل محاميا فى عدة مكاتب فى القاهرة والمنصورة أولها مكتب محمد فريد شريك مصطفى كامل فى الحزب الوطنى وورث رسالته فى الدعوة إلى استقلال مصر عن بريطانيا.
لكن ما إن تولى عبد الخالق ثروت (باشا) وزارة الحقانية (العدل) حتى أقنع النحاس بالعمل فى سلك القضاء وأتاحت له منصة المحاكم فى المديريات التى خدم فيها معرفة معاناة المصريين ووضع عينيه على مظالم لا حصر لها يعانون منها لا شك أنها ساهمت فى تغيير مساره ناحية السياسة.
أدرك أن القضاء ربما ينصف فردا ويعيد حقوقه إليه ولكنه لا يحقق طموحات الأمة ويعيد إليها كرامتها المهدرة تحت أحذية جنود الاحتلال.
بدأ النحاس مشواره السياسى بالانضمام إلى الحزب الوطنى واختاره سعد زغلول عضوا فى الوفد الذى يفاوض على استقلال مصر.
بفشل الحزب الوطنى وتراجع تأثيره اتجه النحاس إلى حزب الوفد ليلعب دورا مؤثرا فى ثورة 1919.. نظم إضراب المحامين.. وزع المنشورات.. كتب الشعارات.. ساهم فى صياغة البيانات.. ولم يكن مستغربا أن يفصل من منصبه القضائى.. ولكنه أصبح سكرتيرا عاما للوفد ثم ترأس الحزب بعد وفاة سعد زغلول تاركا منصب سكرتير الحزب إلى صديقه وتوأم روحه مكرم عبيد باشا.
إن تحالف النحاس عبيد كان تجسيدا مضيئا لشعار الوفد: الدين لله والوطن للجميع.. كما كان تقسيما للمهام بينهما.. بجانب كونه تعبيرا عن صداقة شخصية تجاوزة صلة الدم.. وفى النهاية كان حزب الوفد تحت قيادتهما حزب الأمة الذى لو رشح حجرا فى الانتخابات لفاز بها.
ولعل غياب الوسامة عن النحاس أفقدته فى بداية مشوار الرجولة الثقة فى نفسه فابتعد عن النساء خشية الصد أو الهجر ولكن ما إن أصبح زعيما حتى شد إليه ما لم يخطر على البال من نساء يختلفن فى الأعمار والطبقات وتلك جاذبية من يتمتع بسلطة أو يحظى بنجومية أو يفيض شهرة.
ولكن كنوز الأنوثة فتحت أبواب مغاراتها أمام الباشا الريفى بعد الخمسين فتردد كثيرا قبل الاقتراب من المجوهرات التى تبرق أمامه وحرص على أن يعطى انطباعا مغايرا عنه ولولا قصة فيرا ما كشف ذلك الجانب الخفى من حياته الخاصة.
ودفع حرص القيادات العليا للوفد إلى الضغط على النحاس ليتزوج حتى يتجنب فضيحة تدبر له إذا ما التقى بامرأة فى الخفاء.
وحسب هيكل كان مكرم عبيد مثل كبار الوفديين متحمسا لزواج النحاس بعد نجاته من مكيدة صدقى لكن النحاس لم يستجب إليهم وكانت حجته أن القطار فاته منذ سنوات طوال ولو تزوج وهو فى سن السادسة والخمسين فإن القطار سيدوسه كما أنه لو وافق على الفكرة فلن ترضى به إلا زوجة عانس أو مطلقة أو أرمله وذلك لا يغريه.
ولكن السيدة عايدة قرينة مكرم عبيد فاجأت النحاس ذات يوم وهو يتناول الغداء فى بيتها بأنها وجدت الزوجة التى تعجبه: جميلة وليست عانسا وليست مطلقة وليست أرملة وإنما شابة من أسرة كريمة علمتها كيف تصنع بيتا سعيدا ثم إن أسرتها ستموت من الفرح لو وافق على الزواج من ابنتهم.
ولم يكن النحاس متحمسا حتى رأى العروس وعرف أنها كريمة عبد الواحد الوكيل من أعيان أسرة كبيرة فى البحيرة وقد نال رتبة الباشوية فيما بعد.
فى بداية الزواج كان النحاس يتأهب للعودة إلى رئاسة الوزارة وإلى المفاوضات مع الإنجليز فى مؤتمر مونترو (مقاطعة فى غرب سويسرا على الساحل الشرقى لبحيرة جنيف) الذى انتهى بمعاهدة 1936.
(معاهدة 1936 معاهدة تحالف ودفاع مشترك بين مصر وبريطانيا.. وقعت فى قصر الزعفرانة يوم 22 ديسمبر من تلك السنة.. مدتها 20 سنة إلا أنها ألغيت عام 1951.. ومنحت المعاهدة استقلالا وهميا لمصر..ومنحت بريطانيا قواعد عسكرية فى منطقة قناة السويس.. وسمحت المعاهدة لبريطانيا التحكم فى موارد مصر والتدخل فى سياساتها خلال الحرب العالمية الثانية).
استغل النحاس وجوده فى مونترو ليقضى شهر العسل مع زوجته الشابة الجميلة (المربربة) على ضفاف بحيرة جنيف الساحرة ثم بدأ جولة واسعة فى أوروبا شملت ألمانيا وتضمنت مقابلة مع هتلر ولم يكن قد كشر عن أنيابه بعد.
وحسب حسن نشأت السفير المصرى فى برلين فإن قرينة النحاس اختارت سيدة بسيطة كانت تقوم على تربيتها اسمها أم السعد لتكون وصيفة لها ترافقها فى السفر أحدثت ارتباكا فى تجهيز الملابس التى ظهرت بها زينب هانم فى مختلف المناسبات أما القبعات التى وضعتها على رأسها فلم تتوافق مع المناسبات التى حضرتها.
بدا واضحا أن أم السعد مثل الريفى الساذج الذى يثير السخرية من تصرفاته بمجرد أن تطأ قدماه المدينة.
لكن نوادر أم السعد لم تمنع السفير من تسجيل جنون النحاس بعروسه الشابة معترفا ولو بينه وبين نفسه بأنها شخصية مسيطرة تخبئ قوتها وراء جمالها ثم إنها وقد أطلت من قلب أوروبا على عالمها المسحور سوف تثبت أنها شخصية لها دور كبير فى الحياة العامة داخل وخارج حدود مصر.
إن شجرة الكريز نحتت من فروعها أعواد كبريت أشعلت نار الحب فى قلب النحاس ولكن النار تجاوزت حدود القلب إلى ما يشعل الحريق فى كل ما يمت له بصلة.
والمؤكد أن زينب الوكيل كانت أهم امرأة فى تاريخه.. شعر أنها تسكنه قبل ملايين الأعوام.. وأنه سيظل يحبها حتى تجف مياه البحر.. وتحرق الغابات.. وتقوم القيامة.
بدا أن امرأة مثلها تعشقه يعنى أنه دخل كتب التاريخ من صفحاته العاطفية لكن كانت المخاوف أن يخرج من صفحاته السياسية أو على الأقل يشطب منها كثير من البريق ويضاف إليها كثير من العتمة.
إن زينب الوكيل أصبحت يوما بعد يوم مؤثرة فى حياة زوجها وامتد التأثير من البيت إلى الحزب ومن الفرش إلى العرش وبعد أن كانت تكتفى بالمناقشات السياسية لم تجد ما يمنع من المشاركة فى القرارات السياسية.
بل ينسب إليها أنها تسببت فى حرق جسور الصداقة بين النحاس وعبيد لينقلب تحالفهما إلى عداء دفع ثمنه حزب الوفد من سمعته وتماسكه.
لكن الفاتورة الثقيلة دفعها النحاس نفسه من شعبيته ووطنيته بما لم يتوقع أو يتصور أو يتخيل وحدث ذلك فى يوم أسود مساء 4 فبراير 1942.
فى ذلك اليوم كانت المخاوف البريطانية وصلت إلى حد الجنون من أن تنجح قوات المحور الألمانية الإيطالية المشتركة فى الخروج من المعارك الدائرة فى الساحل الشمالى (عند مدينة العلمين) منتصرة لتبدأ الزحف إلى القاهرة لتستولى عليها واضعة قوات الحلفاء التى جاء جنودها من مختلف المستعمرات البريطانية فى مأزق صعب يكسرها وفى الوقت نفسه ربما يشد من عزم القوات النازية التى دفنت تحت جليد موسكو بعد أن قرر هتلر غزوها غير مستوعب درس سابق أجبر نابليون على تلقيه.
بل إن بينيتو موسولينى ديكتاتور إيطاليا الشرس وحليف هتلر فى الحرب وصل إلى مدينة السلوم ليتسلم مفتاح القاهرة ليدخلها على حصان أبيض جاء به معه بالطائرة بجانب عشرة مصورين ليسجلوا هذه اللحظة التاريخية.
بل إنه انشغل بكتابة الخطاب الذى سيلقيه أمام البرلمان المصرى مدعيا أنه سيحمى الإسلام ويحرر المسلمين مثلما فعل الإسكندر الأكبر ونابليون بونابرت من قبل (ولكن فيما بعد انتهى مصيره مشنوقا فى محطة وقود).
فى تلك الأجواء المشحونة بالتوتر وجدت بريطانيا أن الحكومة فى مصر يجب أن تصبح قوية وموالية وتمثل الأغلبية ومؤيدة شعبيا ويتولاها شخصية لها سمعتها مثل النحاس وكان على المندوب السامى البريطانى السير مايلز لامبسون إجبار الملك فاروق على قبول ما يريد ولو بالقوة العسكرية المدرعة.
فرض لامبسون تلك الشروط على فاروق عندما ذهب إليه فى قصر عابدين ظهر يوم الثانى من فبراير بل وزاد عليها إنذارا بسرعة التنفيذ لم تزد مدته عن 24 ساعة.
المثير للدهشة أن النحاس وافق على تشكيل الحكومة المقترحة من المستعمر بعد استقالة حكومة حسين سرى باشا وكانت موافقته مفاجأة مثيرة لدهشة كل من يعرفه فهو عادة فى الظروف الطارئة يطالب غالبا بحكومة ائتلافية تشاركه تبعات الظرف ولكنه هذه المرة أصر على الانفراد بحكومة وفدية خالصة.
أما المفاجأة الأصعب فكانت اتهام زينب الوكيل بأنها من دفعت به إلى تلك الهاوية حتى تستمتع بكل مظاهر الترف الذى تحظى به عادة زوجة رئيس الحكومة.
ولم يعبأ النحاس بالأزمة التى نشبت بسببه بين السراى (رمز الشرعية) والسفارة (رمز القوة) من ناحية وانقسام حزب الوفد (رمز الشعبية) من ناحية أخرى ولم يتراجع عن قبول تشكيل حكومة جاءت على أسنة الرماح- حسب الوصف الذى شاع وقتها.. حكومة منحت المعارضة فرصة عمرها لتصفه بأنه أصبح بردعة للإنجليز.
أنذر السفير الملك ومنحه 24 ساعة للتنفيذ وإلا أجبر على التنازل عن العرش وجهزت وثيقة التنازل ليجد فاروق نفسه بين نارين.
كان عليه الاختيار.. إما التوقيع على قرار بتشكيل حكومة الوفد.. أو التوقيع على وثيقة تنازله عن العرش.
كان نص وثيقة التنازل واضحا: نحن فاروق الأول ملك مصر تقديرا منا لمصالح بلدنا فإننا هنا نتنازل عن العرش ونتخلى عن أية حقوق فيه لأنفسنا ولذريتنا ونتنازل أيضا عن كل الحقوق والامتيازات والصلاحيات التى كانت عندنا بحكم الجلوس على العرش ونحن هنا أيضا نحل رعايانا من اليمين الولاء لشخصنا.
صدر فى قصر عابدين فى اليوم الرابع من فبراير 1942.
وكانت هناك مساحة لتوقيع الملك.
حاصرت الدبابات قصر عابدين ووجهت المدافع مواسيرها وداناتها ناحية ثكنات الحرس الملكى ولم يكن أمام الملك سوى الاستسلام لرغبة المندوب السامى الذى كان يعامله مثل طفل صغير مدلل يجب شكمه بحزم- حسب شكوى فاروق المتكررة منه.
وفى تلك اللحظات الصعبة الحرجة خسر النحاس حب الملك وعطفه وبدأت مرحلة العداء بين القصر والوفد التى وصلت إلى حدود الانتقام وفى النهاية خسر الطرفان وخسرت مصر معهما وحظى السفير البريطانى بكلمة برافو من وزير خارجيته أنتونى إيدن تبعتها كلمات إشادة من ونستون تشرشل رئيس حكومته.
ويصف هيكل ما حدث بأنه أول انقلاب عسكرى حدث فى مصر ولكنه فى الحقيقة كان انقلابا عسكريا أجنبيا ضد السلطة الشرعية فى البلاد وضع جيشها فى حرج شديد وصل إلى الشعور بالعار.
وحسب ما سمعت من محمد نجيب شخصيا وأنا أجهز مذكراته: كنت رئيسا لمصر فإن غضب ضباط الجيش أصاب فاروق أكثر مما أصاب النحاس.
وكان تبرير نجيب وكنا فى البيت الريفى لزينب الوكيل وسط غيطان المرج الذى نفى إليه منذ نوفمبر 1954 أن الملك لم يستعن بهم لإنقاذه من المهانة ولو فعل لتغير مسار التاريخ.
واعتبر نجيب ما حدث فى يوم 23 يوليو انتقاما متأخرا من الملك.
ولكن الملك وجه كراهيته فى اتجاه واحد ناحية النحاس متناسيا أن النحاس كان وراء جلوسه المبكر على العرش.
كان فاروق لم يكمل السادسة عشر بالشهور الميلادية ليصبح ملكا حسب الدستور فسعت أمه الملكة نازلى إلى النحاس تطلب المشورة خشية أن يتولى العرش ولى العهد محمد على باشا وينجح فى البقاء فيه بطريقة أو بأخرى.. تفتق ذهن النحاس على فكرة تتفجر فطنة وخبرة وحنكة.. أن تحسب سنوات عمر فاروق بالشهور الهجرية لا الميلادية.. وبتلك الحسبة يصل إلى السن القانونية المطلوبة.
وفى الوقت نفسه عارض النحاس تنصيب فاروق فى رحاب الأزهر- كما اقترح مرشد الإخوان حسن البنا- لمخالفته الدستور وليحافظ على مدنية الدولة ويبعد عنها فكرة الخلافة الغائبة.
لكن فاروق الذى لم يبتلع إهانة لامبسون لم يقدر على رد اللكمة إليه وإنما قرر توجيهها إلى النحاس حتى لو اضطر للتخلص منه بالقتل.
فى إبريل 1944 ضبطت مؤامرة من عشرين ضابطا من الجيش لتصفية النحاس ومجلس وزرائه لتنفيذ ما يعرف بالانقلاب العسكرى الثانى وثبت أن رئيس أركان الجيش ورجل القصر الفريق إبراهيم عطا الله ضالع فيها.
فى تلك السنة أيضا أنشأ الملك تنظيم الحرس الحديدى للتخلص من معارضيه بالقتل.
كان الملك يقود سيارته بسرعة جنونية فى طريق الإسماعيلية عندما أصيب فى حادث تصادم مع شاحنة عسكرية تابعة للقوات البريطانية وعندما نقل إلى مستشفى عسكرى قريب تولى علاجه طبيب ضابط فى البحرية هو يوسف رشاد نال إعجاب فاروق فأمر بنقله إلى القصر ليكون قريبا منه- حسب ما ذكر كريم ثابت السكرتير الصحفى للملك فى مذكراته.
وما إن فاتحه فاروق فى تكوين تنظيم سرى شبه مسلح ينفذ عمليات اغتيال معارضيه حتى وافق يوسف رشاد على الفور وعندما طلب منه التخلص من النحاس لم يتردد فى التنفيذ ثلاث مرات ليوصف النحاس بعدها بـ المبروك وليقدر له أن يعيش حتى تجاوز الخامسة والثمانين ليفارق الحياة مستمتعا بمشهد البحر فى الإسكندرية.
حسب عماد أبو غازى مؤلف كتاب مصطفى النحاس مذكرات النفى كانت المحاولة الأولى فى 6 ديسمبر 1945 حين ألقى حسين توفيق قنبلة على سيارة النحاس أثناء مروره فى شارع قصر العينى فى طريقه إلى النادى السعدى ونجا النحاس ولم يكشف الجانى إلا فى تحقيقات النيابة العامة فى قضية اغتيال أمين عثمان.
وكانت المحاولة الثانية فى 24 إبريل 1948 عندما انفجرت سيارة ملغومة بجوار قصر النحاس فى جاردن سيتى ولم يستدل على الجناة ونجا النحاس وإن تناثرت الشظايا فى غرفة نومه.
كان النحاس يسكن فى مصر الجديدة ولكن ضغوط زوجته الشابة دفعت به للانتقال إلى حى جاردن سيتى بالقرب من قصر كان مخصصًا لمدرسة تدبير منزلى تابعة لوزارة المعارف وعلى بعد خطوات من قصر فؤاد سراج الدين النجم الصاعد فى حزب الوفد بعد أن فارقه الكبار.
وكانت المحاولة الثالثة فى منتصف نوفمبر من العام نفسه عندما هاجمت سيارة مسلحة النحاس أثناء عودته إلى منزله مساء ونجا النحاس وقتل اثنان من حراسه وجرح ثلاثة آخرون ولم يعرف الجناة أيضا.
نجح النحاس فى عبور سنوات الإرهاب بسلام فى فترة من الزمن اغتيل فيها اثنان من رؤساء الوزارة ووزير سابق ومرشد الإخوان ووكيل محكمة استئناف وحكمدار العاصمة.. نجا النحاس بإعجوبة حتى وصف بأنه رجل طيب مكشوف عنه الحجاب.
ولكن محاولات اغتيال النحاس امتدت للاغتيال المعنوى من خلال الكتاب الأسود الذى أصدره توأم روحه مكرم عبيد عن انحرافات الباشا السياسية وانحرافات قرينته المالية وما إن نشر الكتاب حتى أحدث تمزقا فى أربطة الحزب تسبب فى إضعافه والإجهاز عليه فيما بعد.
لاحظ عبيد وهو وزير للمالية أن ظروف الحرب لم توقف تصدير سلع غذائية تحتاجها مصر إلى بلاد عربية ولفت نظره وجود اسم أحمد الوكيل شقيق قرينة رئيس الوفد فى العديد من هذه الصفقات.
وتدخلت قرينة النحاس فى حماية بعض أقاربها وهم يصدرون الذهب من مصر إلى بلاد عربية ويحققون مكاسب هائلة.
وحسب هيكل اختص لامبسون فى تقريره للخارجية البريطانية عن الفضيحة أحمد الوكيل بعدد من الأوصاف الثقيلة (لا داعى لترجمتها) وكان رد صديقه أمين عثمان: إن تلك المسألة يجب أن تؤخذ باحتراس لأننا لا نستطيع أن نطلب من الرجل (يقصد النحاس) أن يخاصم بيته.
وفى تلك الفترة رصدت السفارة البريطانية: أن قرينة النحاس استقلت عربة مخصصة لرئيس الوزراء فى أحد القطارات وكان فى رفقتها شقيقها أحمد الوكيل ومعها شريك له اسمه الشويكلى وكانت العربة مليئة بالسبائك الذهبية ومجموعة من النقود الذهبية وشحنة من الماس والمجوهرات وكانت القاطرة متجهة بكل عرباتها إلى فلسطين وبدا أن الزوجة محمية بحصانة زوجها المكفولة لرئيس الوزراء وفى القدس نزل الجميع بما معهم من حقائب وصناديق وجرى تسليم كل شىء إلى مجموعة من السماسرة منهم اثنان هما ميشيل طارابى وعمر داود داجانى.
وأشار التقرير إلى أن الماس له أهمية خاصة بالنسبة لعمليات المخابرات لأنه بسبب صغر حجمه وغلو سعره أسهل فى دفع ما يطلب كبار العملاء من سبائك الذهب لأنها ثقيلة الوزن وأفضل من أوراق النقد التى لا يثق فيها أحد خصوصا فى زمن الحرب.
ووجد الملك وحاشيته فى تلك الانحرافات فرصة لنزع عبيد من الوفد والتشهير بالنحاس والحقيقة أن عبيد كان على وشك الخروج من الحزب بعد أن فشل فى إقناع النحاس بخطورة ما يجرى حوله ويبدأ من غرفة نومه.
لم يؤلف عبيد الكتاب وإنما صاغه الكاتب الصحفى جلال الحمامصى وحصل عبيد على نسخة منه تحمل عنوان الكتاب الأسود، فأضاف إليه للعهد الأسود.
وأتذكر أننى حصلت على نسخة فوتوكوبى من الصديق المؤرخ الراحل الدكتور يونان لبيب رزق الذى صحب الأصل بدراسة حقق فيها ردود الفعل واستجوابات البرلمان بشأنه والآثار التى أحدثها.
كانت محاور الكتاب والاستجوابات التى عرضت فى مجلس النواب تثير الغبار حول الثراء من أموال الأوقاف واستغلال أملاك الدولة والتستر على فساد الأصهار والأنسباء وتفشى الوساطة والرشوة والمحسوبية وتعطيل الأحكام القضائية وصفقات التمويت خارج الحدود.
ونسب الكتاب للسفارة المصرية فى لندن شراء معطف فراء لقرينة رئيس الحكومة من أحد محلات شارع بوند ستريت وقبعات لمختلف المناسبات.
وتوقف الكتاب عند فصل ونقل مئات من الموظفين اعتبرهم الوفد خصوما.
ونسب الكتاب للنحاس أنه نفذ تعليمات السفير البريطانى وقام بسلسلة من الاعتقالات بصفته الحاكم العسكرى، كما أنه سمح لرجال المخابرات البريطانية بالتنصت على التليفونات لصالح السراى والسفارة.
وبخروج عبيد من الوفد صعد نجم فؤاد سراج الدين وفى تقدير هيكل أن الحزب بذلك التحول الحاد انتقل من تمييز أصحاب المواقف إلى تمييز أصحاب المصالح وبجانب الانقسامات التى نالت منه ضعفت عزيمته، وإن حافظ على كثير من شعبيته بسبب شدة عواطف المصريين تجاهه وهم يمارسون العمل السياسى بالقلب أكثر من العقل.
وبتقدم النحاس فى السن زاد نفوذ قرينته وما إن وصل إلى سن السبعين حتى عجز عن مجاراة زوجته (التى كانت فى الخامسة والثلاثين متمتعة بذروة الأنوثة والحيوية) فى قبول المناسبات الاجتماعية كما أنه لم يكن ليعرف الكثير عن تصرفاتها المالية.
وبانتقال الباشا على جسر الزمن من الكهولة إلى الشيخوخة نال منه مرض نفسى هو الوسواس القهرى فقد راح يغسل يديه بما لم يلزم وكأنه يخشى عدوى من ميكروب أو فيروس وبدا مثيرا للدهشة أن يعانى زعيم مثله يعتمد على مصافحة الناس من مختلف الطبقات من هاجس أنه سيموت من المصافحة.
ويوم حرقت القاهرة (26 يناير 1952) لم يستطع وزير الداخلية فؤاد سراج الدين إبلاغ النحاس بما يحدث لأن رفعة الباشا حسب هيكل كان مع مدام جورجينا وهى سيدة أرمينية متخصصة فى قص أظافر اليدين والقدمين (مانيكور وبديكير) وكانت تقصده مرة كل عشرة أيام إلى بيته تعتنى بأظافره خصوصا أظافر قدميه حيث كان أصبعه الأكبر معرضا دائما للغرز فى الجلد مما يستوجب عناية خاصة يستحقها رجل فى سنه وظروفه الصحية وعلى كل حال فإن ظواهر التصرفات تدل على أن النحاس لم يشعر بالخطر مما بلغه عن الأحوال فى القاهرة.
بل أكثر من ذلك طلب النحاس فى ذلك الوقت من الملك أن يقبل يده لعله يرفع غضبه عنه، كما أنه شعر بأن الإنجليز يمكن أن يكونوا سندا له أكثر من أى سند آخر.
ورغم كل ما جرى له فإنه لم يشك فى أن زوجته كانت سببا مباشرا وربما وحيدا فيما جرى له ولم يكن ذلك غريبا فمرآة الحب عمياء خاصة إذا جاء الحب فى وقت الغروب.