عبده الزرّاع يكتب: الجمال التصويري في ديوان "قالت الأشجار" لنشأت المصري

الفجر الفني

عبده الزرّاع
عبده الزرّاع


نشأت المصري أحد شعراء جيل السبعينات الأدبي، وقد تخصص في الكتابة للأطفال منذ فترة طويلة ، وقدم لهم العديد من الدواوين والقصص، بجانب دواوينه للكبار، ومؤخرا أتجه إلى كتابة الرواية وقدم أكثر من رواية نالت إعجاب القراء والنقاد.

 

وقد فاز ديوانه " قالت الأشجار" بجائزة الدولة التشجيعية في شعر الأطفال عام 1998، وفاز بجائزة إتحاد الكتاب في أدب الأطفال عن كتابه: "مدينة القطط" الصادر أيضاً عن هيئة الكتاب عام 2007م.

 

واخترت ديوانه " قالت الأشجار" ليكون محلاً لهذه الدراسة، وأجمل ما في الديوان هو وحدة الموضوع إذ يتحدث عن الأشجار عبر قصائد الديوان الإحدى عشر المتمثلة في: " قالت الشجرة الجميلة " ، " قصة الحجر" ، " الشباب الذي مضى" ، " أنا والرسام" ، " قالت الشجرة الذابلة: وحيدة " ، " الزائر الغريب" ، " أنا والثعابين" ، "العصفور يغني" ، " أختي الصغيرة " ، " أجمل الذكريات" ، " قالت الشجرة الحمقاء: أنا وجارتي والصياد".

 

                                    (1)

 

في أولى قصائد الديوان: " قالت الشجرة الجميلة "، تتحدث الشجرة عن ثقتها بنفسها وقوتها في مواجهة الأخطار المتمثلة في قوة الريح ، وعن تشابهها مع الإنسان في الشكل ، وعلاقاتها بالكون والأشياء من حولها:

 

( أبهى الأشجار أنا /واقفة في وجه الريح / وبرغم الجذع المجروح لا أشكو أو أتبدل )

 

ويقول في موضع آخر من القصيدة:

 

( أبهى الأشجار أنا / أشبه في الشكل الإنسان / أوراقي مثل الشعر / وجذعي مثل الجسم / وجذري قدمان )

 

أراد الشاعر من خلال القصيدة ، أن ينظر إلى الحياة نظرة فلسفية من خلال الشجرة (الحكيمة) التي تعدد فوائدها ، وارتباط هذه الفوائد بالإنسان ارتباطاً وثيقاً ، فهي التي تمنحه الظل لتحميه من شمس الظهيرة ، وتعطيه الثمر يتغذى عليه ، وتعطيه أيضاً أثاث البيت ، عندما يقطعها ويستخدم أخشابها في صناعة الأثاث والقوارب.. إلخ.

 

وتعترف الشجرة أيضاً بمن أعطاها ورباها ورعاها حتى نبتت وكبرت وفرعت وصارت شجرة كبيرة كنوع من الوفاء ، ومن ثم أراد الشاعر أن يعدد فوائد الشجرة ، ليتعرف الأطفال عليها ، ويزرع في نفوسهم قيماً إيجابية جميلة .. تقول القصيدة:

 

( فحمدت الله لأني وفيت / .. وفيت بديني ما قصرت / أذكر من رباني ورعاني حتى فرعت / .. أعطيه الظل / وأعطيه الثمر ، وأعطيه أثاث البيت / .. أعطيه القارب يركبه إن شاء / يصطاد الأسماك: ومن عمق البحر اللؤلؤ والمرجان / لا أنسى من يرعاني / أعطيه سريراً للنوم وللأحلام )

 

لم يكتف الشاعر بهذا بل يبث من خلال القصيدة مجموعة من القيم الإنسانية الحميدة بشكل غير مباشر ، وبصيغة بعيدة عن صيغ الأمر ، ويؤكد على ضرورة نبذ الصفات الذميمة مثل: "الغرور والأنانية" ، وأن كل شئ على وجه الأرض لم يخلق إلا لتسبيح الرحمن، مصداقاً لقول الله عز وجل في كتابه الكريم: "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون" ، وهنا يتناص الشاعر مع القرآن الكريم. 

 

تقول القصيدة: ( لكن عزائي .. أني قلت الصدق بلا لف أو دوران / أني لست أنانية / أو مغرورة / مثلي .. كُل نبات الأرض المعمورة / لكن حاولت التعبير عن الغير / وتجسيد الصورة / أتحدث عن نفسي .. أعترف لكل بني الإنسان: " أجمل ما نفعل في أي زمان ومكان .. تسبيح الرحمن" )

 

ويقول الشاعر في موضع آخر على لسان الشجرة:

 

( وأسبحه بالصمت وبالحركة في الأوراق / أسمع من حولي تسبيح الكون / وتسبيح الريح / لست أنا وحدي من يستمتع بالتسبيح )

 

ويؤكد الشاعر على نفس المعنى في قصيدة أخرى من الديوان ، فيقول في قصيدة: ( قصة حجر ):

 

( الزائر الغريب ، قال: / لو أننا نسمع ما تقوله الأشياء ندرك أن غاية الوجود / عبادة المعبود / الله لا سواه / الله لا سواه / وهكذا أراك يا سيدة الأشجار عابدة لله كثيرة الأفضال )

 

ولأن هذا الديوان مليئ بالقيم الإنسانية الراقية التي حرص الشاعر أن يثبتها في ديوانه ، وأبرز هذه القيم هي: الإعلاء من شأن الإنسان ، الذي كرمه الله عز وجل ، وجعله خليفته في الأرض ، وقد أوردها الشاعر متناثرة في قصائد عدة داخل الديوان ، موضحاً مدى العلاقة الطيبة التي تربط الإنسان بالشجر ، وكأن الشجرة حبيبة تسعد بلقاء حبيبها الإنسان بعد غياب طال مشبهاً هذا بسعادة الإنسان بظل الشجرة في ظهيرة يوم قائظ ليستظل بظلها ، ويأكل من ثمارها الطازجة .. تقول قصيدة " الشباب الذي مضى" على لسان الشجرة:

 

( يا صاحبي .. واقفة أنا / ولم أعد وحيدة / فرحانة أنا لأنني ألقاك / لكن .. إلى متى اللقاء ؟! )

 

وفي موضع آخر من هذه القصيدة ، تقول الشجرة:

 

( لحلتي الخضراء / جميلة الأوراق / بفضل الله ظلها استراحة المسافر / ومصنع الغذاء / ومصنع الأكسجين للحياة / وثمري يأكل منه كل عابر / وبين أذرعي / الطير تبني عشها .. تمارس الغناء )

 

وفي قصيدة: " وقالت الشجرة الذابلة: الزائر الغريب" يؤكد الشاعر على نفس المعنى ، وهو العلاقة الطيبة بين الإنسان والشجر .. تقول القصيدة:

 

( اليوم في الظهيرة / أتي إلى زائر غريب / ينظر لي كأنني أميرة فقيرة / حبيبته كأنه مني قريب )

 

أما في قصيدة: " العصفور يغني" تتجلى هذه العلاقة أكثر ، وهنا تتناص القصيدة مع القرآن الكريم ، يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: (إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا * إلا إبليس آبى واستكبر وكان من الكافرين ) ، تقول القصيدة:

 

( تحياتي إليك يا سيدة الشجر / قلت: كفاه أنه من البشر /فالله قال للملائكة: أن يسجدوا لآدم )

 

لم يغفل الشاعر فضل الكلمة ، " ففي البدء كانت الكلمة " وهناك شعراء كثيرون تحدثوا في قصائدهم عن الكلمة ، يقول الشاعر صلاح جاهين محرضاً على الكلام في قصيدته العامية الجميلة:

 

( الكلمة إيد .. الكلمة رجل .. الكلمة باب / الكلمة نجمة كهربية في الضباب /الكلمة كوبري صلب فوق بحر العباب  / الجن يا أصحاب ما يقدر يهدمه / اتكلموا/ اتكلموا / اتكلموا )

 

أما الشاعر محمد الشرنوبي شاهين " فيقول أيضاً عن الكلمة في قصيدته العامية:

 

( الكلمة راجل شهم / أو راجل جبان / حتى ولو كانت كتابة / على الورق أو ع الحيطان )

 

أما نشأت المصري في ديوانه يقول على الكلمة في قصيدته: " وقالت الشجرة الجميلة ":

 

( فالفنان له ألف تحية / فليأخذ كل منا حقه / حتى لو كانت كلمات من إحساس /

فالكلمات الحلوة أغلى من قطع الألماس / الكلمة ميثاق / شرف ، وعد ، نور طريق / الكلمة في السلم وفي الحرب لها أثر الطلقة / نعرف من كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم / أن الكلمة لو كانت طيبة صدقة )

 

هكذا يرى الشاعر قيمة الكلمة فهي لو كانت حلوة تشبه قطع الألماس الذي هو أغلى من الذهب ، والكلمة أيضاً ميثاق شرف ، وإذا قلتها قطعت على نفسك وعدا لابد وأن تنفذه حتى لا توصف "بالمنافق" وهي النور الذي يضئ الطريق ، وهي في وقت السلم وفي وقت الحرب مثل الطلقة إذا خرجت من فوهة البندقية لا يمكن أن ترجع لها مرة أخرى بل تحسب على قاذفها إذا كانت خطأ أم ثواب ، مثلما تحسب الكلمة على قائلها إن كانت خيراً فهي خير ، وإن كانت شراً فهي شر ، وفي آخر هذا المقطع يتناص مرة أخرى مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكلمة الطيبة صدقة ".

 

هذا الديوان مليئ بالمعاني العميقة التي تحتاج إلى غواص ماهر لكي يغوص وراء مدلولاتها حتى يخرج باللآلئ والجواهر التي تثري حياتنا الإبداعية بالجديد والمفيد.

 

                                         (2)

جاءت  لغة الديوان مناسبة للمرحلة العمرية التي يتوجه إليها الشاعر ، وأنا أراها تتوجه لأطفال المرحلة العمرية من سن 12 : 14 سنة ، وهي مرحلة يتميز أطفالها بأنهم يمتلكون قدراً معقولاً من المفردات والمعاني التي تجعلهم قادرين على التواصل مع مفردات هذا الديوان وعالمه ولغته الراقية بسهولة.

 

وهي أيضاً متناسبة مع الأفكار والرؤى التي يناقشها الديوان ، لأنها أفكار في جوهرها تفلسف الأشياء ، وتعمل على إيجاد علاقات تواصل بين "الشجرة " بطل الديوان ومحوره ، وبين "الإنسان" المستفيد من الشجرة بكل ما تحمل من عناصر مادية ومعنوية ، وتشابهها معه ومع جميع المخلوقات الحية وغيرها من طير ، وزرع ، وحيوان ، وجماد.. إلخ ، في التسبيح لله مالك الملك.

 

أراد الشاعر ألا يقدم أشعارا سهلة بدون إعمال العقل أو التخيل بل أطلق لخيالهم العنان.

 

                                                        (3)

 

استخدم الشاعر في ديوانه "التشبيه " و "الاستعارة " و "الكناية " حتى يعمق أفكاره ويجعلها أكثر نضجاً ففي قصيدة: " قالت الشجرة الجميلة ":

 

( أشبه في الشكل الإنسان / أوراقي مثل الشعر ، وجذعي مثل الجسم / وجذري قدمان / ثوبي ما أبدعه من صنع الرحمن / ثوبي أخضر في لون الخير )

 

هنا شبه الشجرة بالإنسان فأوراقها مثل الشعر ، وجذعها مثل الجسم ، وجذرها مثل القدمين ، وهو تشبه موفق وقريب إلى نفس القارئ ، والثوب الأخضر في لون الخير، فالخضار معادل للنماء والرخاء ، وهو كناية بالفعل عن "الخير" ، والشجرة في مجملها مصدر لهذا الخير فهي التي تعطينا: " الظل / الثمر / الخشب".

 

كما جاءت الصور الشعرية بليغة وموظفة بدقة وتدعو للتفكير وربط العلاقات مثلما يقول: ( زينتم بي كل الطرقات / فأنا رئة أخرى للناس والعربات / أحميكم من نار الحر وأتربة الشر )

 

وفي قصيدة أخرى يقول:

 

( وتلمع الرمال في ضياء الشمس كالذهب )

 

شبه الرمال حينما تسقط عليها أشعة الشمس بالذهب في لمعانه ، وفي قصيدة أخرى يقول: ( الليل جاء / والقمر الخجول في الخفاء )

 

هذه الصورة الجميلة والمعبرة شبه فيها القمر بإنسان خجول يتخفى حتى لا يراه أحد ، ولكنه عندما يظهر يراه الجميع.

 

الديوان مليئ بالصور الجمالية المميزة ، ولكن المجال لا يتسع لرصد كل هذه الصور ، والديوان في مجمله متميز ، يثبت بأن وراءه شاعر متمرس وصاحب خبرة طويلة في الكتابة للأطفال ، والديوان إضافة هامة لشعر الأطفال وللمكتبة العربية.