د. رشا سمير تكتب: يوم يفر المرء من أخيه
حدثنا القرآن الكريم في أكثر من موضع عن أهوال يوم القيامة، وما يحمله هذا اليوم من رهبة وفزع سوف يجعل كل إنسان يفر ممن حوله ولا يبحث إلا عن نفسه، وهو ما بدا جليا على سبيل المثال في قوله تعالى:
((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ))
إن ما ذُكر في الآية الكريمة من أقارب هو ترتيب الفرار وليس ترتيب الأقرب، هكذا وضع الله الأخ في آخر ترتيب الفارين منه أو هكذا فسرها علماء الدين!.
طالما مررنا على تلك السورة ونحن نتلوها متصورين أن هذه الصورة لا تنطبق علينا بدافع ما نكنه من حُب شديد لأبنائنا وذوينا وأخواتنا..كنا نقرأ ونتمنى ألا نكون يوما من هؤلاء الفارين، وكيف نفر منهم وهم قُرة أعيننا؟!.
وكأن هذا المشهد آن له أن يتحقق أعوام قبل أن يأتي يوم القيامة..
الحقيقة أن الأعمال الدرامية في رمضان وبالتحديد (خيانة عهد) و(البرنس) عرضا صورة مخيفة وكئيبة للأسرة المفككة، للأخوة الذين يتقاتلون ويتصارعون ويتمزقون بسبب المال..
هُنا نتذكر حكمة الله سبحانه وتعالى من وراء تقديم المال على البنون في قوله تعالى (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)!..
إنقسم المشاهدين إلى فريقين، فريق يرى أن الأعمال الدرامية بها مبالغات شديدة والفريق الأخر يؤيد ويُقسم أن الحياة تحمل حكايات أقسى بكثير في جُعبتها..
وأنا من الفريق الثاني، فبحكم عملي كروائية وما يصلني من رسائل من قرائي يقصون فيها علي حكايات وقصص حدثت لهم تتطابق مع ما نكتب في الروايات وأكثر، أتذكر يوم صدرت روايتي "بنات في حكايات" أرسل لي المراهقين سيل من الرسائل يروون فيه قصص لا تُصدق عن مآسي البيوت وما لاقوه من معاناة من أبائهم، مما خلق داخلهم نزعة إنتقامية وعقد نفسية ترسبت وكبرت مع الوقت لتحتل كل جوارحهم.
وجاء وباء الكورونا ليكون خير دافع لحكايات لم نتصور حدوثها يوما..
شاهدنا الأم التي كانت تنتظر الساعات لتفرح بخروجها من مستشفى العزل وشفائها من المرض، ويرفض أبنائها استقبالها خوفًا من العدوى، لتتوفى على إثرها جراء أزمة قلبية حادة!.
وكان مشهد السيدة المتوفاة التي تخلت أسرتها عنها ورفضت استلام جثتها خوفًا من العدوى، ليقوم الأطباء بأداء صلاة الجنازة عليها ودفنها في مدافن الصدقات!.
وكيف ننسى الشاب الذي ألقى أمه البالغة من العمر ثمانين عاما في الشارع بمحافظة الدقهلية لمدة يوم كامل تصارع المرض والجوع دون أن يحن قلبه أو يرق أمام أنين أمه، وكان ذلك نزولا على رغبة زوجته التي لا تطيقها!.
تلك الحكايات تتكرر كل يوم، لقد إحتلت القسوة قلوب البشر بشكل مفجع..بشكل جعل المجتمع كله يرتبك، وأصبح الجحود سمته الغالبة..
وأكم من حالات توفى فيها الأم أو الأب، ليقع الأبناء في قبضة الأعمام والأخوال وتحول الصراع على التركة إلى حرب يتم إستعمال كل الأسلحة الفاسدة فيها، فسمعنا عن خال طرد أبناء شقيقته من المنزل، وسمعنا عن عم طعن في نسب بنات أخيه ليستولى على حقهم في التركة، وسمعنا عن إبن هشم رأس أمه بإيعاز من زوجته ليستولى على حقها الضئيل في ميراث أبيه!.
هناك جيل قادم يُعاني من مشاكل نفسية هائلة بسبب صراع الأبوين، وبسبب ما لاقاه في طفولته من إهمال شديد نتيجة أنانية الأب أو الأم، فأكم من أبناء يعيشون مع زوجة أب أو زوج أم في جحيم لا يُطاق، وتبقى تلك الصورة راسخة في ذهنه حتى يكبر وحين يصبح ذويه في حاجة إلى إهتمامه ورعايته، يتنصل لهما بسبب تلك الشوائب التي علقت في نفسه..
يا سادة نحن نحصد فقط ما زرعاناه، فمتى زرعنا الشوك حصدناه، وحين نزرع الحب نحصد الإهتمام..والأهم من هذا وذاك إن ما نزرعه مع أبائنا نحصده مع أبنائنا، فالإبن الجاحد أو الإبنة الجاحدة هما مثال وقدوة لأبنائهما.. فالبر مثل الحصالة، نضع فيها حصاد السنين لينفق أبنائنا علينا من في شيبتنا..فكما تُدين تُدان، تلك هي حكمة الله الراسخة منذ نشأة الخلق.
أعتقد أن ما مررنا به جميعا في أزمة المرض، وما شاهدناه من خوف وهلع وعقوق، دفع البشر إلى قول واحد هو (يالا نفسي!)..
السلام باليد بات نكبة والحُضن بات عزيز ودور البرد أصبح كفيلا بأن يجعلك تجري أميالا لتختبئ في كهف بعيد..فتباعدت المسافات وفترت العلاقات.
ربما نخرج من تلك الأزمة أقوى، وربما نكتسب حقائق لم نكن نعرفها، وربما هي فترة لإعادة الحسابات، الأقربون يسقطون كل يوم والسؤال الدائر في النفوس: من منا عليه الدور؟..
الإستثمار في البنوك لم يعد له جدوى فنحن لا نخرج، والإستثمار العقاري لم يعد يؤتى ثماره، والإستثمار في المعارف خاب حتى في إيجاد سرير بالمستشفيات!..
وبقى الإستثمار الوحيد الرابح..هو..الإستثمار عند الله..
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين..صدق الله العظيم.