الأنبا مكاريوس يكتب: أحباؤنا مرضى كورونا
انشغلت كثيرًا بالتفكير في مرضى الكورونا المعزولون بأمر الطبيب، كيف يقضون وقتهم، وفيما يفكرون، من المؤكد انهم ينظرون الأن الى الحياة بشكل مختلف، وكأنهم خارج الكُرة الارضية يطلون عليها من بعد ويرونها للمرة الأولى، كيف يشعرون، وماذا يتمنون الى جوار الشفاء؟.
لقد أصاب الفيروس الكثيرين، بينما طال القلق عددًا أكبر ممن لم يُصابوا، خشية أن يعرف المرض الطريق اليهم، فيطالهم، بما في ذلك من سيناريوهات تبعث على الكآبة، ذلك وسط انباء متواترة عن أناس فقدوا حياتهم بسببه.
ومن الهواجس التي تنتاب البعض، أن الاصابة بالفيروس ليست لها قوانين مُحددة، فالبعض اصيب به وتعافى دون ان يدري، والبعض الاخر امسك الفيروس بتلابيبه رغم كثرة الاحتياطات، وحتى المرحلة السنية التي قيل ان الفيروس لا يقترب منها، قد صارت عرضة كغيرها من المراحل لاقتحام الضيف غير المرغوب فيه.
ومن بين ما يصيب مرضانا الاعزاء هو الاحباط، كذلك الشعور وكانه قد لحق به عار!، وقد اصبح غير مرغوب فيه، فها هوذا اقرب الناس اليه يتباعدون عنه، ولكن لا تتضايق من حريص تباعد عنك، وخل ولى ظهره لك، وقريب تردد في مساعدتك، فقد يصاب هو ايضا فتتضاعف المتاعب، انه يعتزلك لاجلك، ويبعد عنك ليتمكن من اعانتك، وهذه احدى ضرائب الوباء، انه يحرم الناس من ملاصقة ذويهم ومعانقتهم واعانتهم، فكلا الطرفين يخاف من الاخر وعليه في آن... ولكن هذا لا يقلل من محبتهم لك، بالعكس بل هو شعور بالعجز الكبير في القدرة على التعبير عن هذا الحُب.
وتتقاذف المريض الافكار من جهة انه قد يموت، فيدفن ويشيّع وحيدًا متأففين منه، وهم يفكرون في كيفية التخلص منه دون ان يلحقهم اذاه، اي انه حتى في موته لن يُحتفى به، لقد كان البعض يعزون انفسهم بان جنازاتهم ستكون شائقة، وان كثيرين سيبكونهم، وان العالم سيهتز ويصدم من جراء خبر وفاتهم! ولكن ها هم يرون كل يوم كيف يتم التعامل مع موتى الوبأ، وكيف يتذمر البعض على مجرد دخول الصندوق الى الكنيسة ولمسه، رغم الاحتياطات الضخمة، وكيف نصح البعض بان تكون الصلاة بعيدا في المقابر لتقليل فرص العدوى.
ومن الناس من كان قد اعد لنفسه كفنا خاصا وصندوقا ثمينا، ومدفنا شائقا يدفن فيه، واوصى بان يصلي عليه صاحب حيثية من الاكليروس، ولكنه في مرضه وقد اقترب من مغادرة هذا العالم، يطلب بدموع بان جل امانيه الا يحرم من ان يصلي عليه الكاهن في الكنيسة.
عندما سأل تلاميذ القديس ارسانيوس معلمهم، ماذا يصنعون بجسده بعد مفارقة الروح، من جهة كيفية تكفينه ومواراته، وكيف يحتفلون به؟ عاتبهم القديس مطالبا اياهم ان يجروا جسده الى احدى الربوات، لعل وحوش الجبل تجد فيه طعاما لها.
ولكن كثيرين بارادة قوية والتزام وصبر وحب للحياة، افلتوا من هذا الفخ، ورووا لنا خبرتهم معه مقدمين الشكر لله.. "لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبا الخطر" (مزمور 91: 3).
ليس افضل من ان يتبصر الانسان في امر نفسه، فلا ينتظرن من الاخرين اكرامه، فما اكرام الناس واحتفائهم بمجرد جسد، بقادر على تزكية صاحبه للوجود مع الله في ملكوته، وما ترك جثة في المقابل دون دفن، او دفنها بنفر قليل في ثوب فقير ومقبرة الغرباء، بمانع من المثول امام الله بدالة، فان الاجساد على مختلف اصحابها وطرق مغادرة الروح لها، وكم يحيط بها من البشر عند موتها، جميعها لها نفس المصير من التحلل والتعفن وليس في هذا ما يشين المتوفي، بل انه من المستحيل ان تفرق للوهلة الاولى بين عظام شاب او عجوز، صبية ام سيدة، وبالاحرى بين جميل وقبيح، بل الكل متساو!.
وأتذكر ان المتنيح الانبا اثناسيوس مطران بني سويف، اوصى بان يدفن في ثياب اخوة الرب وفي واحد من الصناديق المخصصة لهم، ومثله طالب القديس البابا كيرلس.بينما لم يشترك في دفن اول السواح وواحد من اعظم الرجال في التاريخ المسيحي سوى القديس انطونيوس واثنان من الاسود، واكثر من ذلك ان اكثر الشهداء ماتوا بغير دفن ومنهم من التهمتهم الوحوش والنيران، ولم ينتقص هذا من كرانتهم بل زادهم رفعة ومجدًا.
وأذكر ذلك المتوحد القديس الذي مات، فاذا بوحش ضاري يجره خارج المغارة ليكون وجبة له ولاولاده، بينما في ذات التوقيت توجد جنازة عظيمة لشخص قيل انه كان شريرا، كذلك قرانا عن المتوحد الاخر الذي مات وبقى مكانه بلا دفن لسنين طويلة، والجنود الذي دافعوا عن بلادهم حتى الموت ودفنوا في مقابر جماعية، واخرين حوكموا كمجرمين وقتلوا وهم ابرياء، ولكن كل ذلك لن يغير من مستقبلهم الابدي، فان كانوا ابرارًا فلهم النصيب الابدي مع المسيح ذاك افضل جدا.
إنها فرصة تستحق الاغتنام لنقف مع أنفسنا لإعادة تقييم هذه الامور، لجعل الاهتمام الاكبر ينصب على سيرة الشخص ومسيرته، وما يترتب عليها من مستقبل ابدي في الملكوت، وها ان زمن الوبأ قد ساوى بين الجميع، فاقتصرت الجنازات على نفر قليل بقوانين صارمة.
الملفت أنه ما يزال قساة القلوب والمجرمين والخطاة يمرحون!، حتى والموت يحيط بهم من كل جهة، وكورونا قد نصبت شباكها في كل مكان، ما يزال الاشرار يتجولون ويستظهرون على الاخرين، فتجاوزوا لصوص القبور الذين لم يردعم لا الاحياء ولا الاموات.
وهي فرصة للتوبة: فمن بين ميزات الوبأ هذه المرة ان فرص الشفاء منه مرتفعة جدا، كما انه لا يقتل فورا، بل يهب وقتا كافيا للتفكر في المستقبل الابدي والاستعداد للموت، وتوديع الاحباء والتوصية بما يريد المريض، اننا سنموت يوما ما، ولا يعرف اي منا متى سيموت، او كيف، ولكن هذا الوبا اعطى فرصة للتفكير بان الموت اقرب الينا مما كان، انها فرصة لا تتكرر إلا نادرًا.
كما أن هذا وقت من الأوقات القليلة جدا التي يجب فيها الاستخفاف بكل ما في العالم، والتخلي عن كل حقد وضغينة، ونبذ الخصومات ورد المسلوب وتصحيح المسار، وتقديم توبة نقية وقوية.
مرة أخرى ومع كل ما ذكرت، فإن الاحتياط والتزام التوجيهات والتحذيرات، والتزام برتوكولات العلاج، قد انقذ ملايين ممن اصيبوا بالفيروس من الموت، ومن ثم نالوا فرصة لحياة جديدة، وكانهم ولدوا من جديد، وستكون توبتهم انقى بالطبع، وبرغبتهم واختيارهم وليس عن قهر واضطرار.
أرجو لقراء هذا المقال من المرضى حياة طويلة بعد النجاة من الوبا، وللباقين الذين لم يسمح لهم الله بهذه الخبرة، بحياة أجمل وأكثر تأثيرًا بعد انقشاع هذه الغمة، ولنستخلص كل ما يمكننا من عبرة وخبرة وطيب الذكرى.. "قدامه ذهب الوبا وعند رجليه خرجت الحمى" (حبقوق 3: 5).