عواصم مصر.. صالحجر سبقت الإسكندرية وبها أول مزرعة سمكية (الحلقة الخامسة)
تعد الحضارة المصرية من أقدم حضارات العالم، وعرفت الحياة المنظمة اجتماعيًا وسياسيًا مبكرًا للغاية، منذ ما يقرب من 6000 عام، وقد يزيد، ولا زالت الاكتشافات تُظهر لنا المبهر فيما يتعلق بالحياة التنظيمية في مصر، وتعتبر العاصمة علامة اكتمال ونمو النظام السياسي، وعبر سلسلة من الموضوعات يحدثنا الدكتور حسين عبدالبصير، مدير عام متحف آثار مكتبة الإسكندرية، في الحلقة الخامسة عن عاصمة من عواصم مصر وهي سايس أحد أشهر العواصم في مصر القديمة.
وعن سايس أو صا الحجر أو صالحجر قال عبد البصير في تصريحات إلى الفجر، إنها مدينة ذات تاريخ عريق، وهي تقع في مركز بسيون بمحافظة الغربية عند فرع رشيد، وتقترب من ساحل البحر الأبيض المتوسط، حوالي مائة كم جنوب شرق الإسكندرية، وهي موجودة منذ العصر الحجري الحديث. وتطورت خلال عصر الأسرات المصرية القديمة.
سر التسمية
تابع عبد البصير، كانت المدينة تسمي في عهد قدماء المصريين باسم "صاو"، وحرفها الإغريق بعد ذلك إلى "سايس، ثم سُميت في العصر الحديث بـ صالحجر، وما يزال موقعها إلى الآن يحمل الاسم القديم، ووصلت سايس إلى أهميتها السياسية في الفترات المتأخرة من تاريخ مصر القديمة، فصارت عاصمة مملكة كبيرة أسسها كبار حكام الليبو، وانبثقت منها أسرتان 24، 26، اللتان خاضتا صراعًا مستمر من أجل توحيد مصر.
أول عاصمة في الغرب قبل الإسكندرية
وأضاف، سايس هي أول عاصمة لمصر في الغرب، قبل الإسكندرية فغالبًا كانت عاصمة البلاد في شرق الدلتا؛ لحرص الملوك على العلاقات مع بلاد الشرق الأدنى القديم مثل سوريا وفلسطين، واعتبرت سايس مدينة مستقلة ذاتيًا.
6000 آلاف عام غيرت مشهدها التاريخي
وقال عبد البصير إن المشهد التاريخي في سايس تغير على مدار 6000 عام بتغير نوعية السكان، والفضل في ذلك يرجع لفيضان النيل، حيث حدثت ترسبات طينية، وتكونت بمرور السنين طبقات من الطمي وصل لعدة أمتار، مما أثر على مجرى النهر والأرض من حوله، وبعد مرور آلاف الأعوام من تجمع الطمي، تضاءلت التربة الرملية وزادت الرقعة المزروعة، وهو ما يشير إلى بداية زيادة النمو الاقتصادي مما شجع على أن تكون سايس حاضرة من حواضر مصر، وأقيمت المدينة في منطقة نائية؛ إذ لا يوجد حولها، أية مواقع أثرية حتى كفر الشيخ.
سايس تتقارب مع الإسكندرية
وأوضح عبد البصير أن من بين أوجه التقارب بين مدينة الإسكندرية ومدينة سايس، هو التشابه في مواد البناء والأحجار المستخدمة في نحت التماثيل، كما أن بعض الأحجار تم جلبها للإسكندرية من سايس؛ فقد كانت هي همزة الوصل بين الوجه القبلي والبحري عبر نهر النيل، وربما كان بقصر كليوباترا الغارق بعض الأحجار من سايس، وكذلك تابوتها وبعض الأبراج الشاهقة والمنارات في الإسكندرية تشابهت مع أبراج سايس، وتلك الأبراج كانت بغرض التواصل مع المدن المصرية وإرسال إشارات ورسائل بالضوء، كما أن هناك العديد من التماثيل التي صُنعت في مدينة سايس، ثم ظهرت في الإسكندرية.
هي مكان حجر رشيد الأصلي
وقال عبد البصير إن عالمة الآثار البريطانية الدكتورة بيني ويلسون، رجحت أن مكان حجر رشيد الحقيقي هو قرية صالحجر الحالية، وليس مدينة رشيد؛ إذ تم نقل الحجر عبر النيل إلى رشيد حيث عُثر عليه هناك، بناءً على أن آثار صالحجر تم نقلها إلى رشيد وفوة عبر المراكب بالليل.
آلهتها
وعن الآلهة التي عبدتها "صاو" قال عبد البصير، إن الآلهة نيت كانت ربة هذه المدينة، وعلى رأسها وضعت تاج الصعيد الأحمر، وهي تمسك بالقوس الذي كان من رموزها، وكان لمدينة سايس خلال الدولة الوسطى معبودة تسمى "نبت صاو" بمعنى "سيدة سايس".
ونبت صاو مثلها المصري القديم أحيانًا في صورة الربة نيت، والتي كان لها معبد كبير في ذات المدينة، وفي الدولة الحديثة، كانت "موت" ربة من ضمن معبودات سايس، وفي العصور المتأخرة، صارت حتحور سيدة سايس، واستطاعت الإلهة نيت -أم الإله رع- أن تحتل مكانة الإله آمون كمعبودة أولى خلال عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية (664 - 526 ق.م).
الملك بسماتيك
وأضاف عبد البصير، نجح الملك بسماتيك الأول في إعطاء سايس رونقها؛ إذ حصلت على عناية كبيرة في عهده وفي عهد خلفائه حتى صارت ذات مركز مرموق، ووصف المؤرخ الإغريقي هيرودوت المعبد الكبير في سايس، ووصف المدينة بأنها كانت مركز التجارة بين اليونان ومصر، وكان التبادل التجاري بين سايس واليونان ودول البحر المتوسط يتم عن طريق "أبوقير" اليوم، قبل الإسكندرية.
بقايا العاصمة الصاوية
وفي شمال قرية صالحجر بمحافظة الغربية -والكلام لعبد البصير- تقع بقايا العاصمة الصاوية، وقد بدأت أعمال الحفائر فيها بواسطة البعثات الألمانية والإنجليزية والسويدية، عام 1850 ثم في عام 1901، واكتشف بها عدة تماثيل مثل تمثال "واح أيب رع"، وتمثال آخر لـ"سماتاوي تف نخت"، وتم نقل بعض التماثيل الصاوية إلى المتحف اليوناني روماني في الإسكندرية، والبعض إلى المتحف المصري بالتحرير.
بقايا قلعة
ومنذ عام 1997، ترأست البريطانية الدكتورة بيني ويلسون البعثة الأثرية بمنطقة تل ربوة الأحجار في سايس القديمة، وتوصلت لعدد كبير من النتائج المهمة، وكان أهم الاكتشافات الأثرية العثور على مجموعة من النقوش، كما وجدت البعثة ما يشبه المربع مساحته 700 متر في 780 مترًا، وكان يحيط به جدار مرتفع يصل إلى عشرين مترًا، وهذا يمكن أن يكون قلعة أو حصن كان في هذه المدينة، كما وجدت البعثة أيضًا حفرة تعتبر موقعًا لتجميع مياه الصرف.
بقايا مزرعة سمكية
وعثرت البعثة على ركام من الحجر الصوان والخزف والعظام، مما مكنها من الحصول علي العديد من المعلومات، ومن بين الركام، وجدت كتلة سوداء، وهي كتلة من عظام الأسماك تعود إلى أربعة آلاف سنة ق.م.؛ مما يؤكد على أن أهل المكان قد احترفوا مهنة الصيد، واستخدموا في تربية الأسماك أحواضًا من الطين، والتي كانت مخصصة لصيد القراميط.
بقايا وسائل صيد
ومن بين الآثار التي حصلت عليها البعثة رمح كان يُستخدم في صيد الأسماك، وقد عاش بالمنطقة الجنود والزراع الذين كانوا يقومون على خدمة الجيش، ويبدو أن أغلب سكان هذا الموقع كانوا ينتمون إلى الطبقة الفقيرة، وهذا ما تم التوصل إليه عن طريق دراسة طرق ووسائل الدفن، وعلى الرغم من انتشار العشوائيات بها، فإنها تميزت بالتنوع الطبقي؛ وذلك من واقع التنقيب عبر طبقات الأرض الأولى.
بقايا معبد الربة نيت
ومن بين الاكتشافات التي عُثر عليها في مدينة سايس، معبد الربة نيت في الجنوب، وقد أشارت عدة مصادر إلى وجوده، ولكن البعثة لم تتوصل إلي مكانه بالتحديد، إذ ربما يكون تحت طبقات من الأرض، كما عثرت البعثة على مجموعة من تماثيل الأوشابتي، وهذا قد يكون دليلًا على وجود مقبرة ملكية في هذا الموقع.
وختم عبد البصير كلماته قائلًا، اتخذ الملوك الصاويون من مدينة سايس القديمة عاصمة الأسرة السادسة والعشرين الصاوية في الفترة من عام 664-526 قبل الميلاد حت صارت صالحجر تمتلك تاريخًا عظيمًا، وصار معظم المتاحف في العالم تضم آثارًا من سايس عاصمة مصر في عصر الأسرة السادسة والعشرين.
يمكن متابعة الحلقات السابقة من عواصم مصر عبر الروابط التالية: