اليوم الـ 17 من شهر رَمَضَان المُعَظَّم 1441هـ
*الباب الخامس (مادة الحُلم ومصادره)
هذا الفصل يستعرض فيه فرويد آراء المُؤلفين السابقين التى تتناول منشأ مادة الحلم وعلاقة الحلم بالحياة المُستيقظة ، ولخّص خصائص الحلم من وجهة نظرهم فى نقاط مُحدّدة (الحلم يُفضّل إنطباعات الأيام الأخيرة الحديثة ، الحلم يختار التافه أو الثانوى من الأفكار ، الحلم يستحضر إنطباعات ترجع إلى الطفولة) ويتم إستعراضها بالتفصيل مع التنبيه أن فرويد يرى هؤلاء المؤلفين لاحظو محتوى الحلم من ظاهره فقط لذلك يُضيف فرويد إنتقاده لنظرياتهم ويسُوق الأدلة على رأيه.
1-الحديث والتافه فى الحلم.
2-مادة الطفولة كمصدر من مصادر الحلم.
3-المصادر الجسمية للحلم.
4-الأحلام النّمطيّة.
1-الحديث والتافه فى الحلم:
يؤكد فرويد أنه لايخلو أى حلم من إرتباطه بأحداث اليوم السابق له ، وبشكل مضطرد ، ويورد فرويد أمثلة على أحلام تخصّه بالإضافة للأمثلة فى الفصول السابقة..
-الحلم: رجل يقف على صخرة فى عرض البحر ، التحليل: فرويد كان قبلها بيوم فى زيارة لجزيرة الشيطان ، وفى نفس الوقت أخبار من أقاربه فى إنجلترا.
-الحلم: زيارة لمكتبة ورغبة فى الإشتراك وكانت قيمة الإشتراك 20 فلورين ، التحليل: زوجة فرويد ذكرته فى النهار الفائت بأن عليه ديناً لها من مصروف البيت مقداره 20 فلورين.
-الحلم: فرويد يكتب بحثاً عن نوع من النباتات لكنه غير واضح فى الحلم ، التحليل: شاهد فرويد فى النهار الفائت بحثاً عن نبات السيكلامين على عارضة إحدى المكتبات.
ويظهر السؤال ، هل الحلم يكون مُتعلقاً بأحداث اليوم السابق له مُباشرةً أم قد يمتد لفترة أطول من فترات الماضى القريب؟ ويرى فرويد أنه لايوجد سبب يستوجب أن تكون هناك فترة منتظمة لحدث نهارى ليترك تأثيره على الحلم ، وكان الكاتب سفوبودا قد ذكر أن أطول فترة بين الحدث والحلم المتعلق به هى 18 ساعة ، إلا أن الكاتب هافلوك أولى تلك المسألة إهتمامه فروى حلماً رآه لنفسه أنه سافر إلى أسبانيا بقصد زيارة مكان يُسمّى داراوس أو فاراوس أو زاراوس ، فلما إستيقظ عجز أن يعرف تفسير الحلم وصرف النظر عنه ، وبعد عدّة أشهر عرف أن إسم زاراوس هو إسم لمحطة تقع بين سباستيان وبالباو كان قد مرّ بها وهو راكب القطار وكان هذا قبل الحلم بـ 250 يوماً.
لكن لماذا يلتقط العقل مادة الحلم من الماضى الحديث بالذات لتكون له الأولوية عن الماضى البعيد؟ يعود فرويد لحلمه الخاص برؤيته لنفسه وهو يكتب بحثاً يتعلق بفصيلة من النباتات ، والواقع أنه قد زار أحد المكتبات التجارية فى اليوم السابق للحلم وكان على العارضة كتاب عن نبات السيكلامين ، يُفسّر فرويد بأن السيكلامين هو الزهرة المُفضّلة عند زوجته ويلوم نفسه باستمرار لأنه قليلاً مايُفكر فى جلب بعضاً من تلك الأزهار لها وعليه فالحلم إلتقط رغبة دفينة عند فرويد فى أن يهدى لزوجته الزهرة التى تحبها ، إلا أن مُجرد رؤية الكتاب على عارضة المكتبة لم يكن السبب الوحيد لتكوين مادة الحلم ، فقد كانت هناك زوجة يعرفها فرويد وكان زوجها يُهديها زهوراً كل سنة فى عيد ميلادها وفى أحد الأعوام نسى الزوج هدية الزهور السنويّة فبكت الزوجة وسارع الزوج للخروج للبحث لها عن الأزهار التى إعتادت عليها لكنها ظلت على غضبها من أن المشكلة ليست فى الزهور لكن فى نسيانه لعيد ميلادها ، هذه الزوجة كانت قد زارت زوجة فرويد من يومين سابقيْن على رؤيته لحلمه وهو يكتب بحثاُ عن النباتات.
وهنا يوضّح فرويد أن حلمه وهو يكتب بحثاً عن النباتات قد يبدو من ظاهره تأثراً بشيئ هامشى تافه وهو رؤيته لكتاب معروض بأحد المكتبات ، لكن عندما نتساءل لماذا إختار العقل مادة الحلم تلك الفكرة بالذات نغوص لباطن الحلم فنعرف أن المقصد هو تذكير فرويد بالزهور التى قلّما يُهديها لزوجته والتى تحبّها كثيراً.
ويتساءل فرويد ، ماذا لو لم يكن فى زيارة للمكتبة ورأى هذا الكتاب عن النباتات بالذات وماذا لو لم تزُرْ تلك الزوجة الشابة منزل فرويد ؟ غابت الروابط التى دفعت للحلم فيتوقع فرويد وقتها أن يتجه العقل لإلتقاط روابط لأفكار أخرى مختلفة لحلم مختلف دون شك ، ويُفسّر فرويد إختيار العقل لمادّة مُعينة لتكون موضوعاً للحلم بأنها تلك الشحنة النفسية التى تتكون لدى العقل لتجد طريقها للتعبير عن نفسها فى الحلم ، فيرى فرويد أن مصدر الحلم قد يكون:
-خبرة حديثة واحدة ذات أهمية نفسية تظهر فى الحلم بشكل مُباشر.
-عدّة خبرات حديثة هامة يتم دمجها فى الحلم دفعةً واحدة.
-خبرة حديثة مُهمّة يتم التعبير عنها فى الحلم بخبرة حديثة أخرى لكنها غير مُهمة.
-خبرة باطنة ذات أهمية تظهرفى الحلم بتكرار وعادة تُمثّل ذكرى من الذكريات.
ومن هنا يرى فرويد أن أحد مُقوّمات الحلم هو إنطباع حديث من اليوم السابق ، ويُؤكد أن الحلم لايشغل أبداً بالتوافه ولايزعج نفسه بالصغائر فالأحلام يتبيّن مغزاها إذا تكبّدنا عناء تحليلها ، ويسوق فرويد حلماً لأحد مريضاته وهى شابة لكنها من النوع المُلتزم أخلاقيّاً بشدّة حلمت بأنها ذهبت للسوق وذهبت للجزار فعرض عليها بضاعته فأجابت "لا آخذه" وذهبت لبائعة الخضار وشاهدت نوعاً من الفجل بلون أسود لم يُعجبها وعادت لمنزلها دون شراء ، والواقع إنها كانت فى اليوم السابق فى زيارة للسوق ووجدت الجزار مُغلقاً رغم أنه ليس يوم عطلة ولم تجد مايُعجبها من الخضرة وعادت فعلاً دون أيّة مُشتريات ، وعليه فبالإمكان توقّع أن الحالمة حلمت بأحداث حديثة قد تبدو تافهة من ظاهرها ، لكن مادة الحلم ليست تافهة أو ثانوية فالواقع أنه حدث خلاف بينها وبين طباخها فى المنزل وعرف فرويد أنها ردّت عليه قائلةً "لا آخذه" وهى نفس الكلمة التى ظهرت فى الحلم لكنها فى الواقع أضافت كلمة "إلزم حدودك" وهى كلمة تُقال لتعنيف رجل "ترك دكان جزارته مفتوحاً" فى وقت العطلة الذى ينبغى أن يُغلق فيه المحل طبقاً للآداب والأخلاق مايعنى أن الطباخ قد تصرف بما لا يليق فى الواقع ، أما النبات الذى يشبه الفجل الأسود الذى رفضته المريضة فى الحلم فالفجل الأسود يُنطق بالألمانية قريباً من كلمة "أغرب يا أسود" ، وهنا يتضّح أن الحلم لم يكن مُجرد تاثر بزيارة عادية للسوق لكنه تعبير عن حدثيْن مُهميْن فى حياة شابة مُلتزمة ومُتمسّكة بأخلاقها بشدّة.
*المصدر: كتاب تفسير الأحلام لسيجموند فرويد ، تحت إشراف الدكتور مُصطفى زيور 1969.