مى سمير تكتب: أسرار «الدولة العميقة» ولماذا تطارد ترامب؟

مقالات الرأي



كتاب جديد للصحفي الأمريكي ديفيد روود يكشف: أسرار «الدولة العميقة» ولماذا تطارد ترامب؟

كيف انتقلت سلطتها من الوكالات الأمنية إلى الكونجرس بعد تحقيقات لجنة الكنيسة؟


يعتقد 3 أرباع الأمريكيين أن مجموعة من المسئولين الحكوميين والعسكريين غير المنتخبين يتلاعبون بشكل سرى ويوجهون السياسة الداخلية فى الولايات المتحدة، فى حين يلوم الرئيس ترامب «الدولة العميقة» على محاولات عزله. ولكن ما هى «الدولة العميقة» الأمريكية وهل هى موجودة حقا؟

يحاول كتاب (فى العمق: الـ أف بى آى، السى آى إيه، والحقيقة بشأن الدول العميقة فى الولايات المتحدة) للصحفى ديفيد روود، الحاصل على جائزة بوليتزر الصحفية مرتين، تقديم إجابة على السؤال.  الكتاب عرضته جريدة الواشنطن بوست ويتضمن أهم المعلومات التى يكشفها استناداً على عشرات المقابلات مع عملاء بوكالة المخابرات المركزية، وعملاء بمكتب التحقيقات الفيدرالية، ومسئولين أمريكيين. 

1- الدولة العميقة

فى مقدمة الكتاب يشير روود إلى أنه بالنسبة للمحافظين فإن «الدولة العميقة» هى بيروقراطية حكومية تتزايد باستمرار - «دولة إدارية» تعتدى باستمرار على الحقوق الفردية.

وفى المقابل يخشى الليبراليون من «المجتمع العسكرى الصناعي»، ومن وجهة نظرهم فإن هذا المجتمع هو عبارة عن عصابة من الجنرالات ومقاولى الدفاع الذين يدفعون البلاد بشكل روتينى إلى حروب لا نهاية لها. 

ويشير إلى انخراط كل رئيس أمريكى حديث - من كارتر إلى ترامب - فى صراعات على السلطة مع الكونجرس ووكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالية، وشك كل مدير من مدراء وكالة المخابرات المركزية أو مكتب التحقيقات الفيدرالية فى أن مساعدين من البيت الأبيض سربوا لأعضاء فى الكونجرس أسرارا لتحقيق مكاسب سياسية. 

حسب الكتاب فإن الأمريكيين المحبطين لا يثقون بشكل متزايد بالسياسيين والمسئولين غير المنتخبين، والصحفيين الذين يعتقدون أنهم منحازون إلى جانب واحد فى الأجندة السياسية للبلاد، وفى هذا الإطار تواجه الديمقراطية الأمريكية أكبر أزمة شرعية لها منذ نصف قرن.

2- نظرة تاريخية

 كتب روود أن فكرة الدولة العميقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً برؤية معينة للسلطة الرئاسية، ويكتب أن هناك مجموعة من المحافظين الذين اعتقدوا منذ فترة طويلة أن «وجود رئاسة قوية دون عوائق من قبل الرقابة العدوانية من الكونجرس والمحاكم، كان ضروريا للدفاع عن البلاد». 

وأضاف روود: «إلى حد كبير بقيت نظرتهم للسلطة التنفيذية القوية على هامش السياسة الأمريكية، ولكن اكتسبت هذه الوجهة من النظر مساحة أكبر خلال إدارة ريجان، ثم بعد هجمات 11 سبتمبر، وبشكل غير متوقع عندما فاز دونالد ترامب بالرئاسة فى عام 2016، أى بعد أربعين عاماً من إكمال لجنة الكنيسة عملها». (كانت تلك اللجنة قد حققت فى الأفعال الخاطئة لمكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة المخابرات المركزية فى أواخر الستينيات وساعدت فى إنتاج الإصلاحات التى أسست إشراف الكونجرس على الوكالات).

ويتطرق الكتاب إلى تحقيقات لجنة الكنيسة فى محاولة لتفسير الدور الذى تمارسه الدولة العميقة المزعومة، وحققت فى انتهاكات وكالة المخابرات المركزية، وكالة الأمن القومى، المباحث الفيدرالية، وخدمة الإيرادات الداخلية، وتم تأسيسها فى 1975 فى أعقاب فضيحة ووترجيت كجزء من سلسلة من التحقيقات فى الانتهاكات الاستخباراتية، وتوصلت إلى أنه كان يتم التحقيق بشكل غير قانونى مع الأمريكيين لسنوات.

 كتب روود: «فى مجتمع أعلن نفسه استثنائيا وديمقراطيا وحرا كانت انتهاكات الخصوصية والحرية منتشرة على نحو مثير للدهشة».

«قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالاطلاع على ما يقرب من نصف مليون رسالة تم إرسالها بالبريد بين مواطنين عاديين فى الولايات المتحدة، قام عملاء الوكالات الأمنية الأمريكية بتمويل أو اختراق مجموعات طلابية ومراكز جامعية ومؤسسات عبر الولايات المتحدة سرا».

وخلصت اللجنة إلى أن الانتهاكات لم تكن تجاوزات من قبل عدد قليل من الضباط، بل كانت منهجية وجزءا من عمل المؤسسة الأمنية.

وأثناء تحقيقات لجنة الكنيسة التى سعت إلى تقويض دور الوكالات الأمنية ومنح دور أكبر للكونجرس، تخرج طالب شاب واعد اسمه ويليام بار، الذى يشغل حاليا منصب وزير العدل، من جامعة كولومبيا فى نيويورك وانضم إلى وكالة المخابرات المركزية كمحلل استخبارات.

كتب روود: « فى وقت لاحق، شكك بار فى عدوانية إشراف الكونجرس، قائلاً إن لجنة الكنيسة وجهت ضربات قوية لوكالة المخابرات المركزية». 

وقبل تنفيذ توصيات لجنة الكنيسة كانت الوكالات الأمنية المختلفة هى رمز للدولة العميقة فى الولايات المتحدة، بعد ذلك ومع زيادة دور الكونجرس الرقابى تحول إلى رمز لهذه الدولة العميقة. ولعب ويليام بار دورا واسع من أجل الحد من هذا الدور الرقابى الذى يقوم به الكونجرس. 

 يجادل روود بأن هذا كان بمثابة بداية كراهية بار لرقابة الكونجرس، والتى اعتبرها مفرطة وغير ملائمة، وأحيانا كوميدية، لقد أخبر أصدقاؤه أنه شعر بالفزع من متوسط ذكاء بعض أعضاء الكونجرس وغباء أسئلتهم، وكانت هذه الجولة الأولى فى حرب مستمرة شنها بار ضد مراقبة الكونجرس.

يتتبع الكتاب الدور الذى لعبه بار فى اللحظات الرئيسية التى شهدت تعزيز السلطة التنفيذية، وعلى سبيل المثال عندما قرر الرئيس الأسبق جورج إتش دبليو إرسال القوات الأمريكية إلى بنما فى نهاية الثمانينيات لاعتقال الرئيس مانويل نورييجا، كان بار يشغل منصب رئيس مكتب المستشار القانونى بوزارة العدل، وأصدر رأياً قانونياً خلص إلى أن الرئيس لديه «سلطة دستورية متأصلة» تمنحه القدرة على إصدار أمر إلى مكتب التحقيقات بإلقاء القبض على الناس فى الدول الأجنبية،

وبالفعل ألقى عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية القبض على نورييجا وتمت محاكمته وألقى فى السجن فى الولايات المتحدة. وبعد الحادى عشر من سبتمبر توسعت الولايات المتحدة بشكل كبير فى إلقاء القبض على الرعايا الأجانب فى الخارج.

كما اشتهر مصطلح «الدولة العميقة» بشكل كبير فى الولايات المتحدة من خلال كتاب صدر عام 2007 بعنوان «الطريق إلى 11 سبتمبر» بقلم بيتر ديل سكوت.

اتهم سكوت، وهو متقاعد من جامعة كاليفورنيا الجيش الأمريكى بتأجيج الصراع داخل وخارج البلاد منذ الحرب الباردة حتى هجمات 11 سبتمبر 2001.

فى هذا السياق بدت الفكرة كأنها وقود مناسب لإشعال مناقشة سياسية معقولة. وأثناء الترويج للكتاب أصبح سكوت ضيفاً فى برنامج راديو أليكس جونز اليمينى المتطرف، وتحولت فكرة الدولة العميقة أسيرة عدسة أكثر تآمرية.

أجرى روود مقابلة مع سكوت اعترف فيها الأخير أنه ندم على الظهور فى البرنامج، وغضب من كيفية استخدام جونز وجمهوره لمفهوم «الدولة العميقة».

 ظهر مفهوم الدولة العميقة مرة أخرى فى مقال على موقع بريتبارت الإخبارى بعنوان «الدولة العميقة مقابل دونالد ترامب»، قبل فترة وجيزة من تولى ترامب منصبه، وحسب كاتب المقال الذى يستخدم اسما مستعارا «فيرجيل»، فإن تعريف «الدولة العميقة» يشير إلى جميع الموظفين الفيدراليين وكذلك مؤيديهم السياسيين، والنخبة السياسية (الطبقة الثرثارة) ووسائل الإعلام الرئيسية، أى ما يمكن وصفه بأن بـ«ناد سرى يعمل على استخدام أدوات السلطة لصالحه»، وتتماشى هذه الفكرة مع شكوك الأمريكيين الطويلة فى الحكومة، خاصة بين المحافظين.

3- أمريكا اليوم

انتشر مفهوم الدولة العميقة إلى حد كبير فى عصر الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب. لقد أصبح من المعتاد سماع أنصار الرئيس ترامب يتحدثون عن وجود جيش سرى من المتذمرين يكمن بشكل عميق فى أحشاء الحكومة هدفه طرد ترامب من منصبه. ويشار إلى هذا الجيش باسم «الدولة العميقة».

حسب الكتاب أصبح ترامب أول رئيس أمريكى يستخدم مصطلح «الدولة العميقة» للإشارة إلى حكومة الولايات المتحدة، فى عام 2017. كما يبدو أمرا عاديا ومعتادا هذه الأيام، بدأ هذا الاتهام من خلال إعادة الرئيس الأمريكى نشر تغريدة كتبها مذيع فوكس نيوز شون هانيتى، لأتباعه البالغ عددهم 60 مليون متابع، حيث اتهم هانيتى الدولة العميقة بمحاولة إلغاء نتائج انتخابات 2016. منذ تلك اللحظة، أصبح هذا المصطلح «جزءا من قاموس ترامب، جنبا إلى جنب مع» مطاردة السحرة» و»الأخبار الكاذبة»، كما يشير روود. يستخدم الرئيس ترامب نفسه هذا المصطلح بشكل متزايد. فى عام 2019، استخدم ترامب العبارة على الأقل 23 مرة، أى ضعف عدد ذكره لهذا المصطلح فى عام 2018.

 من المؤكد أن ترامب جاء إلى منصبه وهو محمل بمشاعر من عدم الثقة فى مؤسسة واشنطن. لديه شك عميق فى موظفى الخدمة المدنية الذين عملوا فى ظل الإدارات السابقة، وهو مقتنع تماما بأنهم جزء من مؤامرة واسعة ضده.

كما كانت علاقته مع مجتمع الاستخبارات ومكتب التحقيقات الفيدرالية على نفس القدر من إثارة الجدل.

بشكل عام لا يوجد مؤسسة أمريكية محصنة من شك الرئيس الأمريكى، وفى المقابل عملت الكثير من المؤسسات الأمريكية على تقويض إدارة ترامب بدءا من التحقيقات فى التدخل الروسى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية انتهاء بتحقيقات المساءلة فى الكونجرس والتى استهدفت عزل ترامب.

حسب عرض جريدة واشنطن بوست، حتى أنتونى فوسى، كبير خبراء الأمراض المعدية فى البلاد، الذى أصبح الطبيب الأمريكى الذى يقود مواجهة وباء فيروس كورونا، تم اتهامه بأنه ممثل فاعل فى هذه الدولة العميقة. انتشرت الفكرة عندما وضع فوسى يده أمام وجهه فى لفتة تم تفسيرها على أنها عدم تصديق بعد أن أشار الرئيس إلى وزارة الخارجية باسم «وزارة الخارجية العميقة». ثم وجد فوسى نفسه وسط رواية محبوكة اتهم فيها بالمبالغة فى تصوير تهديد الفيروس مما أسفر عن تدمير الاقتصاد والإضرار بفرص إعادة انتخاب ترامب. 

ازدهرت فكرة الدولة العميقة فى عصر ترامب: مهاجمة المنافسين السياسيين، والهجمات على وسائل الإعلام، ومتطلبات الولاء، وتفريغ المؤسسات الحكومية الكبيرة والصغيرة، التشكيك فى المخابرات، والتأجيج من الانقسامات فى الجيش، وأخيرا المزاعم بأن إدارة أوباما تجسست على حملته.

قال مسئول سابق لروود إن ستيفن بانون قام على وجه التحديد بتغذية نظريات مؤامرة ترامب «لجعل الرئيس لا يثق فى نصيحة المسئولين الحكوميين المحترفين الذين عارضوا أهداف سياسة بانون».

توصل روود إلى استنتاج مفاده:»لقد أعرب كل رئيس أمريكى حديث عن عدم الثقة فى المسئولين الحكوميين العاملين فى واشنطن. لكن لم يهاجم أى رئيس دوافع المسئولين الحكوميين المحترفين بشكل علنى أو غاضب مثل ترامب. لم يتعامل أى رئيس بصراحة مع نظريات المؤامرة لتحقيق مكاسب سياسية، كما فعل ترامب».

بالنسبة لترامب تعد الدولة العميقة بمثابة الهدف المثالى للهجوم واستغلاله لكى يبث فكرة نظرية المؤامرة حيث تعمل بعض مؤسسات الدولة ضد إدارته، بينما يستغل بدوره مؤسسات أخرى لصالحه. 

على سبيل المثال لاحظ تقرير لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ مؤخرا أن مجتمع المخابرات «قدم معلومات استخباراتية متماسكة وقوية من أجل بناء قضية حول التدخل الروسى غير المسبوق فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016». على الرغم من ذلك أكد وزير العدل الأميركى، وليام بار أن تقرير المحقق الخاص روبرت مولر، عن التدخل الروسى فى انتخابات الرئاسة عام 2016، أثبت أن الرئيس دونالد ترامب، وحملة الانتخابية لم يتواطأوا مع الروس. 

فى النهاية يشير الكتاب إلى أنه بالنسبة إلى الليبراليين الدولة العميقة هى المجمع الصناعى العسكرى، وبالنسبة للجمهوريين الدولة العميقة هى البيروقراطية الإدارية.

لكن مع اختلاف نظرة الديمقراطيين والجمهوريين لحقيقة الدولة العميقة فى الولايات المتحدة، فإن الكتاب يشير إلى أن الوكالات الأمنية خاصة فى هذا العصر الرقمى، أصبحت أقوى من أى وقت مضى، وتشكل دولة موازية حقيقية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وفيما يتعلق بالدور القوى للأجهزة الأمنية فى الدولة الأمريكية، لا يوجد اختلاف بين رئيس ديمقراطى أو جمهورى.

على سبيل المثال يستعرض الكتاب كيف تجسس مجتمع المخابرات فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما على لجنة فى مجلس الشيوخ، وضلل الكونجرس بشأن التجسس على الأمريكيين ووسع استخدام حرب الطائرات بدون طيار.

كتب روود: « كل هذا يأتى بتكلفة باهظة على النظام الديمقراطى ونظام ما بعد ووترجيت، الذى سعى إلى جعل إنفاذ القانون شيئا آخر غير خدمة البيت الأبيض».