د. نصار عبدالله يكتب: 10 رمضان
نحن الآن فى اليوم العاشر من شهر رمضان عام 1393 هجرية الموافق 6 أكتوبر 1973م،.. .لم يكن مضى على تسريحى من الخدمة العسكرية وعودتى إلى عملى المدنى سوى ثلاثة أشهر فقط،.. تحديدا ثلاثة أشهر وخمسة أيام بالإضافة إلى ساعات لم تكتمل عدتها إلى يوم كامل حتى يتسنى لى أن أقول إنها ستة أيام!!،.. كنت قد قضيت فى الخدمة العسكرية خمس سنوات ونصف السنة، رغم أن مدة تجنيدى فيما كان مفترضا هو عام واحد فقط، وبانقضاء ذلك العام المفترض، نقلت إلى خدمة الاحتياط، ثم تم استبقائى شأنى فى ذلك شأن كل أبناء دفعتى، وبعدها تم نقلى إلى الجبهة حيث كان لى شرف المشاركة فى حرب الاستنزاف، وفى تلك الحرب المجيدة التى أظن أنها لم تنل إلى الآن ماهى جديرة به من التقدير، فى تلك الحرب عرفت عددا كبيرا من رفاق السلاح وفقدت عددا منهم ممن استشهدوا فيها، وقد رثيتهم فى قصيدة لى عنوانها: «أغنية إلى مقابر المثلث» نشرت فى حينها، ثم نشرت بعد ذلك ضمن أعمالى الكاملة، فى أول يوليو 1973 قيل لنا إننا قد أكملنا دورنا فى خدمة الوطن وأنه قد آن الأوان لكى نعود إلى وظائفنا المدنية، وإن جيلا آخر من المقاتلين سوف يكمل من بعدنا المسيرة ويقوم بتحرير الأرض المحتلة، وهكذا عدت إلى إدارة البحوث الاقتصادية بالبنك المركزى المصرى لكى أواصل عملى السابق الذى كان يتمثل فى إعداد التقرير السنوى للبنك وإصدار المجلة الاقتصادية التى كانت ـ وما زالت ـ تتسم بالدقة الشديدة والمصداقية العالية. فى ذلك الوقت كنت معتادا على التردد يوميا على دار الأدباء القريب جدا من منزلى، والمشاركة فى ندواته الأسبوعية.. كانت الدار فى تلك الفترة مجهزة تجهيزا فاخرا بفضل المجهودات التى بذلها يوسف السباعى رحمه الله فى إعداد مكان يليق بأدباء مصر ويعقدون فيه ندواتهم، وفى غير مواعيد الندوات كان المكان بمثابة كافيتريا فاخرة ومطعم حافل بالأطعمة المختلفة الرائعة التى كان يطهوها عم دهب ويقدمها بـأسعار مدعومة من الدولة (ومع هذا كان الكثيرون من الكتاب والشعراء وعلى رأسهم أمل دنقل يماطلونه فى دفع الحساب، فيضطر إلى الشكوى ليوسف السباعى الذى كان يكلمهم، فيعدونه بالوفاء، ثم لا يوفون فيضطر إلى دفع حسابهم من جيبه الخاص فى معظم الأحيان).. أعتذر عن هذا الاستطراد لأقول إننى فى يوم 6 أكتوبر 1973، كنت جالسا أتجاذب الحديث مع عدد من الموجودين، عندما كان أحد الموجودين (أظنه الأستاذة فتحية العسال) ممسكا براديو ترانزستور، حينما انبعث صوت المذيع قائلا: «جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالى: « قام العدوُ، فى الساعة الواحدة والنصف من بعد ظُهر اليوم، بمهاجمة قواتنا بمنطقتى الزعفرانة والسخنة، فى خليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية، عندما كانت بعض زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى من الخليج، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدى للقوات المغيرة»،بعدها انبعثت المارشات العسكرية، فأحسست ساعتها أن شيئا غير عادى قد حدث، وعبرت عن مشاعرى تلك للحاضرين الذين أجمعوا جميعا على أنه بيان عادى مثل باقى البيانات التى نسمعها بين الحين والحين، لكننى نهضت واقفا وأنا أقول: سوف أتابع الموقف من بيتى من خلال تتبع الإذاعات المختلفة « قالت لى فتحية العسال: يا راجل خليك معانا.. أدى احنا كلنا بنسمع.. ولو فيه حاجة زى ما بتقول حنسمعها مع بعض».. قلت لها: لا أنا عندى راديو ناشيونال يابانى بيجيب كل الإذاعات»..ضحكت وهى تقول: «طيب يا خويا يا بتاع الناشيونال.. لوفيه حاجة ما تنساش تبقى تقول لنا».. حين عدت إلى منزلى لفت نظرى برقية فى صندوق البريد.. فسألت البواب: متى وصلت هذه البرقية؟ أجاب: لسه الراجل ماشى دلوقت ونبه علىَّ أول ما تيجى تقراها على طول.. فتحت غلاف البرقية، وفى داخلها كان الآتى: «قدم نفسك إلى وحدتك فورا».. وعلى الفور سارعت إلى ارتداء ملابسى العسكرية، فقد كانت التعليمات التى تلقيناها يوم تسريحنا تقول: صحيح أن مهمتكم قد انتهت، وسوف تعودون إلى وظائفكم المدنية،.. ومع هذا كونوا مستعدين للعودة فى أى وقت متى طلب منكم ذلك.. قد نحتاج إلى استدعائكم إذا ما تطلب الأمر ذلك، وقد نستدعيكم لمجرد التدريب لفترة معينة تعودون بعدها إلى حياتكم المدنية. إننى أكتب هذه السطور فى ذكرى 10 رمضان.. ذلك اليوم الذى لا ينسى.