عادل حمودة يكتب: الاختيار بين التورط فى الخيانة واشتهاء الشهادة
الإخوان سيهاجمون المسلسل لأنه ينعش الذاكرة بأزمات حكمهم
الصراع الدرامى فى الحلقات بين ضابطين.. المنسى الحالم بالشهادة والعشماوى المتورط فى الخيانة
الشركة المنتجة لم تبخل على العمل ولم تضع قيودًا على السيناريو
تتأمل مصر صلابة وجهها فى مرايا سيناء.
تقرأ اسمها خمس مرات بعد كل صلاة فى كتاب الشهادة.
وتؤمن بأن قوتها فى رصاص مقاتليها لا فى حناجر مطربيها.
هذه وصايا الكبرياء التى حفظها أحمد المنسى فى مدرسة العسكرية المصرية فبرقت جراحه تحت الشمس كأنها أحجار من ياقوت.
أسطورة حية مثله تضع رجولة أغلبنا فى حرج شديد وهو يشاهدها سيرتها السامية مجسدة فى دراما تليفزيونية وطنية لم نعرف مثلها من قبل وضعت نفسها فى مكانة خاصة وتركت المسلسلات الأخرى تتسابق لنيل جائزة درامية شهيرة اسمها الوهم.
عنوان المسلسل من كلمة واحدة: الاختيار ولكنها كلمة فاصلة حاسمة بين ضابط تورط فى الخيانة وضابط اشتهى الشهادة.
ورغم أننا نعرف مصير أبطال المسلسل قبل أن تبدأ أحداثه فإننا نشعر بالإثارة من المشاهد الأولى وتزداد الإثارة مشهدا بعد آخر وكأننا نعيش الأحداث أول مرة حتى أننا نأسف على قطعها بإعلانات الزيت والصابون التى تنال الكثير من الدراما وتفقدها نقاءها.
بل أكثر من ذلك نحن عاصرنا أحداث المسلسل ونعرفها جيدا وبعضنا كان طرفا مباشرا فيها بل إن غالبية الشخصيات مازالت حية مما فرض على المؤلف (باهر دويدار) تحرى الدقة وإلا خرج أنصار التنظيمات المعادية ينهشون نصه إذا لم يلتزم الدقة تماما ولكن من حسن حظه أن فيديوهات اليوتيوب تنصفه تماما.
وسيكون أول من يقف للمسلسل بالمرصاد جماعة الإخوان التى تبدأ الأحداث فى السنة التى تولوا فيها الحكم بكل ما فيها من أزمات واضطرابات وتفجيرات وميليشيات بدأت مشوارها الشرس نحو الخلافة الوهمية بتنفيذ خطة تقسيم مصر وكان العربون إعلان إمارة إسلامية مستقلة فى سيناء لتبدأ حرب جديدة مختلفة على أرضها.
ولكن المثير للدهشة أننا أسقطنا من عيوننا وعقولنا وضمائرنا كثيرا مما عانينا فى تلك الأيام الصعبة من مخاوف على أنفسنا وهويتنا وحريتنا وبلادنا بسبب آفة النسيان التى نعانى منها وجعلت منا أقدم أمة وأضعف ذاكرة.
المسلسل يذكرنا بانقطاع الكهرباء وطوابير البنزين وغياب الأمن وقتل الصحفيين وتهديد القضاة وحصار المنشآت الحيوية (المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى) وإعلان البيان الرئاسى الذى وضع كل السلطات والصلاحيات فى يد محمد مرسى وإطلاق النار على المعترضين المعتصمين أمام القصر الجمهورى.
ويعيد المسلسل تجسيد العمليات الإرهابية والعمليات الانتقامية المضادة ببراعة وخبرة بدت فيها المشاهد كأنها واقعية لا تمثيلية والسبب بالتأكيد الإمكانيات التى وفرتها القوات المسلحة من طائرات ومدرعات وتشكيلات ومعلومات وخبرات ولولاها ما وصل العمل إلى مستوى المسلسلات الأمريكية التى نشاهدها على شبكة نيتفليكس.
ولكن بجانب تلك الإمكانيات كان لابد من شركة منتجة لا تبخل على العمل بما تملك رغم تكلفته العالية مثل شركة سينرجى.
حسب ما سمعت من المؤلف فإن الشركة لم تضع قيودا على كتابة مشاهد السيناريو لتوفير النفقات بل اعتمدت ميزانية مفتوحة لتصبح الكرة فى حجر طاقم العمل ليظهروا شطارتهم.
ويدور الصراع الدرامى فى المسلسل بين ضابطين سابقين فى الصاعقة استغرق البحث عن حياتهما نصف السنة التى كتب فيها المسلسل.
الأول: العقيد أركان حرب أحمد المنسى قائد الكتيبة (103) صاعقة فى شمال سيناء الذى استشهد فى معركة كمين البرث فى 7 يوليو 2017.
وحسب ما ذكر أحد الناجين من التفجير الانتحارى الذى نال من الشهيد وتسعة مقاتلين معه فإن الإرهابيين كانوا يسألون عنه بالاسم ويصفونه من شدة الغيظ بـ«الطاووس الأكبر».
إنسان بسيط.. متواضع.. محب للحياة.. يعتمد على نفسه منذ صغره.. لا ينسى حق الفقراء فى راتبه.. متدين.. مبتسم.. يصل الرحم.. وموهوب فى التعبير عن نفسه نثرا وشعرا.. حسب ما روت عنه زوجته منار سليم وصديقه محمد طارق الوديع.
الثانى: هشام عشماوى الذى تخرج فى دفعة تالية لدفعة أحمد المنسى ولكنهما خدما معا فى الإسكندرية ولكن ما أن آمن عشماوى بالفكر التكفيرى حتى سعى للخروج من الخدمة ليستخدم خبراته القتالية ضد الدولة التى أنفقت عليه الكثير ليتعلمها.
فى صباه جذبه شيخ مسجد فى حى مدينة نصر إلى الإخوان وعاتبه وحرضه والده على مقاطعة أقرانه المسيحيين وضربه عندما وجده ينظر إلى بنت الجيران حسب المعلومات التى ذكرها بنفسه فى التحقيقات.
دخل سوريا من حدودها مع تركيا بواسطة أحد المهربين وأعلن ولاءه لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والتقى بأميره أبو بكر البغدادى ثم سافر إلى ليبيا ليكون تنظيمه الخاص (المرابطون) هناك.
فى سنوات قليلة أصبح عشماوى أكثر الإرهابيين المطلوبين فى مصر بعد أن أشرف على تفجيرات انتحارية متعددة مانحا لنفسه اسما مستعارا هو أبو عمر المهاجر وحكم عليه بالإعدام غيابيا فى أول ديسمبر 2017.
وفى 28 مايو 2019 تسلمه اللواء عباس كامل مدير المخابرات العامة من الجيش الوطنى الليبى الذى نجح فى القبض عليه وأعاده إلى القاهرة لينفذ فيه حكم الإعدام يوم 4 مارس الماضى.
وحسب زوجته نسرين السيد على (المنتقبة الحاصلة على الماجستير فى جامعة عين شمس الظلم الأكبر بين الشيعة والسنة) فإن عشماوى تأثر بضابط سابق خرج من الخدمة لأسباب أمنية هو عماد الدين السيد.
عماد السيد كان أشد تطرفا وعنفا نفذ عملية الواحات التى استشهد فيها 16 ضابطا ومجندا فى 20 أكتوبر 2017 واختطف النقيب محمد الحايس وتمكنت الوحدة 999 من تحريره وتصفية الجناة.
وهو من غسل مخ عشماوى وبرر له قتل الأبرياء وعلمه كيفية تجنب المراقبة الأمنية وأخذه إلى شيوخ التطرف ليسمع منهم فتاوى الدم.
وحسب الزوجة أيضا فإن عمشاوى تأثر أيضا بضابط سابق هو وليد محمد بدر الذى قاد محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم فى عام 2013 وقبل تصفيته قاتل فى سوريا ونفذ عمليات انتحارية فى مصر.
لكن يبقى الصراع الدرامى محصورا بين المنسى وعشماوى رغم أنهما لم يلتقيا وجها لوجه إلا مرة واحدة وفيها كشف فيها كل منهما عما يؤمن به:
المنسى: إيه يا بنى اللى جابك بدرى؟.
عشماوى: جاى أخلص إجراءات القومسيون عشان أخرج معاش وأنت إيه اللى جابك نويت تمشى؟.
المنسى: يا بنى أمشى أروح فين هو احنا شغالين فى طابونة دى بلد لو مشينا مين حيحميها وبعدين أنا ما أعرفش أعمل حاجة تانية أنا واحد ربنا خلقه عشان يحارب وبس.
عشماوى: هى فين الحرب دى يا منسى وبعدين حنحارب مين وحنحارب فين أنت لسه عايش فى الوهم زى ما أنت إحنا موظفين بس بدرجة ضباط جيش.
المنسى: ليه يا هشام مش اللى بيحكموا دلوقتى حبايبك ولا إيه؟ جاى بعد ما ركبوا الحكم عايز تسيب الجيش وتمشى.
عشماوى: هم بتوع سياسة وهم أدرى بشغلهم وأنا كمان حامشى شغلى بطريقتى عشان أنا زهقت.
المنسى: وأنت ايه اللى مزهقك فى الميرى؟.
عشماوى: بقولك إيه يا منسى البدلة اللى أنت لابسها مش حايجيلك من وراها غير كل شر.
المنسى: الحكاية مش فى البدلة الحكاية فى اللى بتعمله وأنت لابس البدلة، فكر وراجع نفسك عشان أنا خايف عليك تيجى يوم وتندم.
عشماوى: مش حندم.
إنهما نفس الجيل والسن والتعليم والمهنة والطبقة الاجتماعية فما الذى فرق بينهما؟ ما الذى جعل كلاً منهما فى طريق؟ لم كان أحدهما منشرح الصدر باسم الوجه مطمئن القلب والآخر يغلى صدره بالكراهية وتنفجر فى وجهه العدوانية وينفث القلب طاقة سلبية؟.
هنا يحسم الرئيس الخلاف بينهما فى كلمة واحدة: الوعى أو الفهم.
عشماوى اتلخبط وخان ونحاسبه والمنسى حافظ على العهد وحافظ على الدولة ونكرمه.
والحفاظ على العهد وعلى الدولة فرضا على المنسى حالة صوفية ضاعفت من مشاعره الإنسانية وجعلته ينزل عمرو بن العاص من على حصانه ويقدم لمصر عباءته وسيفه وحياته وهويقرأ لها سورة الفتح.
شخصية صافية الإيمان.. تجاوزت حدود الأسطورة.. فرضت على صاحبها حلمًا سعى جاهدا لتحقيقه.. الشهادة.. عبر عن أمنيته نثرا وشعرا.. سجلها فى وصيته طالبا بعدم البكاء عليه.. لم نبك على من سيخرج من الدنيا إلى الجنة دون حساب؟ لم نحزن على من يحظى بالفرح الخالد؟.
كتب الشهادة على الخوذة لعله لا يملك الوقت للنطق بها.. جهز الأوفرول الذى سيدفن فيه.. أوصى بدفنه فى الملابس التى استشهد فيها.. جهز المقابر قبل شهر من لحظة النهاية.. وسجل بخط يده خطابا إلى عدوه يشكره فيه على إتاحة الفرصة له ليحارب فى أرض الفيروز التى رويت بدماء الآباء ولأجداد وليصلى فى كل شبر فيها.
لكنه يضيف: أقسم بالله ما لكش عيش فيها طول ما إحنا فيها.
ما كل هذا العشق للوطن؟.
ما كل هذه الرومانسية فى العطاء إلى حد الفناء؟.
أهم من أن تعرف كيف تعيش؟ أن تعرف كيف تموت؟.
أن تعرف كيف تستشهد.
أن تعرف كيف تجد لنفسك مكانة رفيعة فى القلوب لا ينازعك عليها أحد.
أن تعرف كيف تختار؟.