تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم} الآية 61 من سورة التوبة
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 61 من سورة التوبة
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61)}
ونعلم أن الإيذاء لرسول الله صلى الله جاء بعد النبوة، وكان بعض الكفار يقولون ما حكاه القرآن على ألسنتهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
وهذا دعاء مَنْ لا عقل له، ولو كانوا يعقلون لقالوا: إن كان هذا الحق من عندك فَاهْدنا يا رب إليه، أو اجعلنا نؤمن به. ولكنهم من فَرْط حقدهم وضلالهم، تمنَّوا العذاب على الإيمان بالحق. وهذا يكشف لنا تفاهة عقول الكفار.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} والذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم هم السادة، وهم أصحاب النفوذ الذين يخافون ان يذهب منهج هذا النبي بنفوذهم؛ وثرواتهم؛ وما أخذوه ظلماً من الضعفاء، والضعفاء- كما نعلم- هم أول من دخل إلى دين الإسلام؛ لأنهم أحسوا أن هذا الدين يحميهم من بطش الأغنياء واستغلالهم ونفوذهم. وشاء الحق أن يبدل خوف الضعفاء قوة وأمناً، وشاء سبحانه أن يضم إلى الإيمان عدداً من الأغنياء؛ ومن رجال القمة مثل: أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، حتى لا يقول أقوياء قريش مثلما قال قوم نوح لنبيهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا...} [هود: 27].
وهكذا كان الإيذاء له صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة، أما قبل الرسالة فكان في نظر الجميع هو: الأمين والصادق والمؤتمن.
ومن العجيب أنهم، بعد أن نزل الوحي، كانوا لا يستأمنون أحداً مثلما يستأمنون محمداً صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هناك شيء ثمين عند الكافرين المعارضين، ذهبوا إلى رسول الله ليحفظوا هذه الأشياء الثمينة عنده. وهذا التناقض لا يفسره إلا وثوقهم في أخلاقه صلى الله عليه وسلم. ورغم ذلك كانوا في غيظ وكَمَدٍ؛ لأن القرآن قد نزل عليه. والحق هو القائل ما جاء على ألسنتهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وهم بذلك قد اعترفوا بألسنتهم بعظمة القرآن، بعد أن اعترفوا بسلوكهم بأمانة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم اعترضوا على اختيار الحق سبحانه له، وتمنوا لو كان هذا القرآن قد نزل على أحدهم عظمائهم. ورد الحق سبحانه عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا...} [الزخرف: 32].
وفي هذا دعوة لأن يتأدبوا مع الله سبحانه، فهو لم يوكلهم في اختيار من ينزل عليه رحمته، ورسالته، ولكنه سبحانه هو الذي يختار. وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وإذا كان لأحد نعمة من مال أو جاه أو مجد، أو غير ذلك، فهذا ليس من قدرات البشر أو من ذواتهم، ولكنه نعمة من الله.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} إذن: فالإيذاء سببه أنه صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة الخير، ولا يجيء رسول بدعوة الخير إلا إذا كان الشر قد عم المجتمع. وحين يعم الشر في المجتمع فهناك مستفيدون منه، فإذا أتى رسول الله بالخير أسرع جنود الشر ليؤذوا صاحب رسالة الخير، إذن: فمن الطبيعي أن يكون للنبي أعداء.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً...} [الأنعام: 112].
بل إن كل من يحمل من العلماء رسالة رسول الله ليبلغها إلى الأجيال التالية، إن لم يكن له أعداء، أنقض ذلك من حظه في ميراث النبوة، وكل من له أعداء ويقوم بهداية الناس إلى منهج الله، نقول له: لا تنزعج، واطمئن؛ لأن معنى وجود من يعاديك، أن فيك أثراً من آثار النبوة.
وتمثَّل إيذاء المنافقين له صلى الله عليه وسلم في عدة صور؛ منها قولهم: {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}.
وللإنسان- كما نعلم- وسائل إدراك متعددة: فالأذن وسيلة إدراك، والعين وسيلة إدراك، والجوارح كلها وسائل إدراك. وكل إنسان له ملكات متعددة، منها ملكات إدراكية وملكات نفسية، ولملكات الإدراكية هي التي يدرك بها الأشياء مثل: السمع والبصر والشم والذوق. أما الملكات النفسية فهذه يوصف بها الناس. وعلى سبيل المثال: نحن نسمي الجاسوس عيناً؛ لأنه يتجسس وينقل ما يراه إلى غيره. ونسمي الرجل الذي يسمع كل حدث (أُذُن)، ونسمي اللص الذي يتعدَّى على ماله غيره صاحب اليد الطويلة وهكذا.
إذن: كل جارحة لها حاسة، والنظر والسمع والشم واللمس والذوق كلها من وسائل الإدراك الحسية التي تتكون منهالخمائر المعنوية، ثم تصبح عقائد، فوسائل الإدراك هذه تتلقى من العالم الحسي ما يعطيه لها من معلومات، وتخزنها لتتصرف بعد ذلك على أساسها، وتكون في مجموعها هي ما يعلمه الإنسان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يمتنُّ على خَلقه، فيقول: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
والشكر لا يكون إلا على النعمة، فكأن وسائل الإدراك هذه مما تسمعه أو تراه ببصرك، أو تدركه بفؤادك هي من نعم الله التي يجب أن نشكره عليها؛ لأنها أعطتنا العلم الحسي بعد أن كنا لا نعلم شيئاً.
وإذا أطلقَ على الإنسان اسم جارحة من جوارحه، فاعلم أن هذه الجارحة هي العمدة فيه، فكأن قول المنافقين وصفاً للرسول {هُوَ أُذُنٌ} هو سَبٌّ للرسول، وكان الواحد منهم يقول: احذروا أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكشف نفاقهم ويؤذيكم؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام في رأيهم يُصدِّق كل شي. أرادوا أن يتهموه صلى الله عليه وسلم أنه لا يمحص القول الذي يُنقل إليه ويصدق كل ما يقال له، كما نقول نحن في العامية (فلان وِدَني) أي: يعطي أذنه لكل ما يقال له.
فيرد عليهم الله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يستمع لمنهج السماء ويبلغه للبشر ليهدي أهل الأرض، إذن: فهو خير للناس كلهم. وحتى إذا أخذنا كلامهم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدقهم إن كذبوا عليه، فهذا خير لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يؤذيهم، وهو صلى الله عليه وسلم {أُذُنُ خَيْرٍ} لأنه لا يسمع إلا من الله بالوحي. ولذلك قلنا: إن الحكمة من أمية رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنه لم يستمع من مُسَاو له، وإنما كان علمه من الله. فإذا كانت الأمية فينا نحن نقيصة؛ فإنها الكمال كله في حق رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يأخذ إلا من خالقه، وهو اذن خير؛ لأنه الأذن التي استمعت إلى آخر إرسال ينزل من السماء لهداية الأرض.
فإذا كان المنافقون قد قالوا: {هُوَ أُذُنٌ} فقد قال سبحانه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}، وهو خير يعود نفسه على البشرية كلها، ولكن ليس بالمعنى الذي تعيبونه عليه، فهو قد يسمع إساءاتكم، ثم يسمع اعتذاركم فلا يؤذيكم ويعفو عنكم.
وما دام هذا هو سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا تؤذونه وترهقونه؟
وفي اللغة ما يسمونه (القول بالموجب)، فإن قال لك واحد شيئاً تصدقه وتقول له: نعم، ولكن قد تأخذها على مَحْمَل آخر، فإن كان هناك إنسان يُكثِر الزيارة لإنسان ويقول له: أنا أثقلتُ عليك، ويرد عليه: أنت أثقلتَ كَاهلي بأياديك، أي أن أفضالك عليَّ كثيرة. وإن قال لك واحد: (أنا طولت عليك)، يرد عليه صديقه: لا، أنت تطولت عليَّ، أي: أعطيتني نعمة بأنك أسعدتني بمجلسك. إذن: فهو قد وافقه على وما قال، ولكنه رد عليه بعكس ما قال.
وهم قد عابوا على الرسول أنه أذن، فكأن أذنه تتحكم في كل تصرفاته، وإن سمع شيئاً تأثر به. وإن سمع شيئاً ينغصه ينقلب موقفه من النقيض إلى النقيض. وحاولوا أن يدَّعوا أنه يصدق كل ما يسمعه ولا يحتاط تجاه من يبلغه، وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم {أُذُنٌ}، وردَّ الحق سبحانه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} وبطبيعة الحال لم يكن قول الحق موافقاً لما قالوه؛ لأن (أُذُن) عندهم غير {أُذُن} التي أقرها الله سبحانه وتعالى.
وقد يقول بعض السطحيين: إن المنافقين قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ أُذُنٌ} وهم يقصدون بذلك أنه يسمع ويصدق كل ما يقال له، وليس من حكمة التمحيص والاختيار. لكن لنلتفت إلى أن الحق قد قال: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع إلا من الله، وما يسمعه من الله أطاعه وطبَّقه، وما سمعه من الناس؛ عرضه على منهج الله؛ فإن وافق المنهج نفذه، وإن تعارض مع المنهج رفضه.
إذن: فهو أذن للخير لا يسمع إلا من الله، ولا يأتي من رسالته إلا الخير لمن اتبعه.
ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى: أذن خير للمؤمنين، وقال: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}؟؛ لأن خيرية رسول الله قد شملت الجميع، وتعدَّتْ المؤمنين إلى المنافقين وإلى الكفار. فكان رسول الله صلى الله عليه لا يفضح منافقاً، إلا إذا فضح الله المنافق بقرآن نزل من السماء.
وعلى سبيل المثال: كان المنافقون يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعتذرون عن الجهاد في سبيل الله؛ ويطلبون الإذن بالقعود. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم الإذن. وحين كان المنافقون يأتون إلى الرسول الكريم ويحلفون له كذباً، كان يصدقهم، أو على الأرجح لا يفضح كذبهم أمام الناس.
إذن: فالخيرية فيه عليه الصلاة والسلام شملت المنافقين؛ لأن خُلُقَه الكريم أبى أن يفضحهم أمام الناس. أما الكفار فد شملتهم الخيرية أيضاً؛ لأن دعوته لهم إلى الإسلام، وإصراره صلى الله عليه وسلم على هذه الدعوة، جعل عدداً من الكفار يسلم ويؤمن، وأصابهم خير عميم من اعتدائهم لدين الحق. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي: للبشرية كلها.
وهكذا فرق الحق سبحانه وتعالى بين ما يريدونه، وما يقصده الله جل جلاله. هم قصدوا وصف الرسول أنه أذن سَمَّاعة. والله يقول: إنها أذن خير؛ وهذا ما يسمونه في اللغة- كما قلنا-: (بالقول الموجب)، أي: أن تتفق مع خصمك فيما قاله، إلا أنك تحول ما قاله من الشر إلى الخير. والمثال أيضاً فيما يقوله الحق سبحانه وتعالى على ألسنة المنافقين حين قالوا: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل...} [المنافقون: 8].
كانوا يقصدون أنهم هم الأعز، أما الأذل فهم المؤمنون. ووافقهم الحق سبحانه وتعالى على ما قالوا؛ نعم سيُخرِج منها الأعزُّ الأذلَّ. ولكنه أراد أن يبين لهم من هو العزيز ومن هو الذليل؛ فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...} [المنافقون: 8].
فكأن الحق سبحانه وتعالى يؤكد لهم أن الأعز سيُخرج الأذل، ولكنهم يحسبون أنفسهم هم الأعزاء؛ فيقول لهم: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. وهذا ما يسمونه بالقول الموجب، أي: أن تتفق مع من يقول، ويقصد أن يوجه كلامه وجهة الشر؛ فتقلب المقصود من الكلام وتوجهه وجهة الخير. وهذا مقصود به هنا أن تزيد من ذلة المخاطب، فأنت تجعله يعتقد أنك توافقه، فتنفرج أساريره ويشعر بالسعادة؛ ثم بعد ذلك تنقض ما قاله؛ فيصاب بالذل. تماماً كما يأتي الحارس لسجين يشعر بظمأ شديد ويُلِحُّ في طلب كوب ماء.
فيقول له الحارس: سأحضر لك كوب الماء. وفعلاً يحضر الكوب مليئاً بالماء المثلج، ويفرح السجين ويظن أنه سينال منه ما يريده، ولكن ما إن يقرب الحارس الكوب من فم السجين، حتى يفرغه على الأرض، فيكون تعذيبه أكبر مما لو رفض منذ البداية إحضار كوب الماء.
وهكذا شاء الحق سبحانه وتعالى أن يزيد ذلة المنافقين، فوافقهم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {أُذُن} ثم جاء بنقيض ما كانوا يقصدونه فقال: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} وما دام صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله فهو يأخذ منهجه من الله سبحانه وتعالى، ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم.
إذن: فهناك ثلاثة أدلة على خيرية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يؤمن بالله وينفذ منهجه. ثم يؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا. ونلاحظ أن هناك اختلافاً بين قوله تعالى: {يُؤْمِنُ بالله} وبين قوله عز وجل: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}. فبالنسبة للإيمان بالله جاء بالباء في قوله: {بالله} وبالنسبة للمؤمنين جاء باللام في قوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ}.
بعض الناس يقولون: إن هذه مترادفات؛ لأن معنى {يُؤْمِنُ بالله} أي: يصدق بوجوده. والمنافقون كفرة بالله، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} معناها أنه صلى الله عليه وسلم يصدق المؤمنين. أما المنافقون فهو صلى الله عليه وسلم يعرف أنهم كاذبون فلا يصدقهم. ولكنه لا يفضحهم أمام المؤمنين؛ حتى لا يقطع عليهم خط الرجعة إن كانوا ينوون الإيمان فعلاً.
ولو فضحهم صلى الله عليه وسلم أمام المؤمنين لضاعت هيبتهم تماماً. وإن فكر أحدهم في ترك النفاق إلى الإيمان، لوجد صعوبة شديدة في ذلك؛ لأن أحداً لن يصدقه. ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يسترهم أمام المؤمنين؛ فجعل باب الإيمان مفتوحاً على مصراعيه؛ لأن صلى الله عليه وسلم إنما جاء رحمة للعالمين، ولذلك فهو يحرص على أن يبقي باب التوبة وباب الإيمان أمامهم مفتوحاً دائماً مع حفظ كرامتهم.
قول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يصدقهم، وكلمة الإيمان بالنسبة للناس جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى حين أعلن السحرة إيمانهم برب موسى وسجدوا؛ قال لهم فرعون: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر...} [طه: 71].
ومعنى {آمَنتُمْ لَهُ} أي: صدَّقتموه، ولكن ما هو الفرق بين الباء واللام؟ أنت حين تقول: آمنا بالله. فأنت تعلن أنك قد آمنت بالذات بكل صفات الكمال فيها، وحين تقول: آمنت للمؤمنين فيما قالوه، أي صدقتهم لأنهم مؤمنون.
ومادة (آمن) تدور كلها حول الأمن والطمأنينة، ولكنها تأتي مرة لازمة ومرة متعدية. مثلما تقول: (آمنت الطريق) أي: اطمأننت إلى أنه لن يصيبني فيه شر. ومنها قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ...} [يوسف: 64].
أي: أن السابقة هنا أنه آمنهم على يوسف فلم يرعوا الأمانة، فصار لا يأمنهم على أخي يوسف، وهذه آمن اللازمة. أما المتعدية فهي التي يتعدد فيها الأمن، مثل قوله تعالى: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ...} [قريش: 4].
والخوف متعدد في أشكاله، فهناك مثلاً خوف من الظلام، وخوف من العدو، وخوف من مخاطر الطريق، إذن: فالأمن هنا شمل أشياء متعددة وقد أدخلهم الحق سبحانه في الأمان والطمأنينة من أشياء متعددة.
وقوله تعالى: {يُؤْمِنُ بالله} هو إيمان بالذات، وإيمان بالصفات، وإيمان بالمنهج، وإيمات يسع أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، فكأن الإيمان هنا قد تعددت جوانبه. أما الإيمان للمؤمنين فهو تصديق لهم وهذا هو الخير الثاني. وقوله سبحانه: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ}؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شفيع لهم يوم القيامة، وقال: (أمتي أمتي)، وهو رحمة لهم في الدنيا؛ لأنه يقودهم إلى الخير الذي يقودهم إلى سعادة الدنيا ثم إلى جنة الآخرة، ويبعدهم عن الشر والنار؛ فهو صلى الله عليه وسلم رحمة تدفع الضرر وتأتي بالخير، والرحمة إنما تأتي باتقاء الضرر.
والله سبحانه وتعالى يقول: {شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ...} [الإسراء: 82].
الشفاء يعني أن يكون هناك مرض ويشفى الإنسان منه، والرحمة ألا ياتي المرض، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بمنهج إذا اتبعه الناس وآمنوا به؛ كان لهم وقاية فلا يصيبهم شر في الدنيا ولا نار في الآخرة.
ويتساءل بعض الناس: لقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} والمنافقون قد آمنوا بألسنتهم فقط فما موقفهم؟ نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رحمة فقد احترم كلمة اللسان وصدقهم أمام الناس، أما الحق سبحانه فينزلهم في جهنم.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وإيذاء المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالمواجهة؛ لأنهم أعلنوا كلمة الإيمان، وكان الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين في قلوبهم وفيما بينهم في مجالسهم، ولذلك لم يكن الإيذاء منهم مباشرة قط، ولكن الآيات بينت أنواع الإيذاء بأنهم يلمزون في الصدقات، ويقولون: إنه أُذُنُ، ويحلفون له كذباً ليضللوه، إلى آخر ما كانوا يفعلون.
ثم يأتي الحق بصورة أخرى من صور المنافقين فيقول سبحانه: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ...}.
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 61 من سورة التوبة