مختار العبيدي يكتب.. عالم ما بعد كورونا

ركن القراء

مختار العبيدي
مختار العبيدي


حسب ما يرى العديد من المحللين بمختلف الاتجاهات، وحسبما أعتقد أنا كذلك فإن العالم عقب هذه الأزمة الطاحنة الفجائية التي عصفت بدول العالم أجمع، لاسيما الدول الكبرى كأمريكا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وغيرها من الدول التي كشف فيروس كورونا عن عوار كبير في منظومتها الطبية، رغم الإنفاق الكبير عليها، فالولايات المتحدة الأمريكية تعد الدولة الأكبر إنفاقًا على الرعاية الصحية، وفي ذات الوقت باتت أكثر الدول تضررًا جراء فيروس كورونا، إضافة إلى إيطاليا وغيرها من دول العالم الأول.

فيروس كورونا حسب رأيي ورغم ما جاء به من مخاطر مفزعة للجميع إلا أنه حمل في طياته رسائل إيجابية عدة، مفادها أولا، أن المجتمع الإنساني يعود في أصولة لعائلة بيولوجية ذات أصل واحد، وعلى الجميع أن يعمل وفقا لهذا المبدأ، وأن نتوقف عن تلك النزعة البراجماتية التي اتسم بها العالم الغربي لفترات طويلة من الزمن، فالجميع بات في قارب واحد وإصابة أحدهم قد تودي بحياة الآخرين.
 
الإيجابية الثانية التي قد نراها في عالم ما بعد كورونا أن ثمة اهتماما كبيرا ستأخذه البيئة العالمية بالحفاظ على المقدرات الطبيعية، وبات أمرًا لا مفر منه للتخلص من المشكلات العديدة التي تؤثر على حياة الإنسان، وكما رأينا مؤخرا جراء عمليات حظر التجوال في دول عدة، أن السماء باتت صافية حتى أن الأمريكان احتفل بعضهم برؤية جبال الهيمالايا من شرفات المنازل لأول مرة.

وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي فثمة تغيرات اقتصادية ستحدث دون شك، فالاتحاد الأوروبي أوشك بشكل كبير على التفكك في السنوات القليلة المقبلة، وظهر هشًا في مواجهة أزمة كورونا، ولم يقدم دعمًا كبيرًا للدول المتضررة كإسبانيا وإيطاليا حتى أن ألمانيا لأول مرة نراها تتخلى عن دور المنقذ للاتحاد الأوروبي ونأت بنفسها بعيدًا.
وكما يعرف المتابع الجيد لحركة الاقتصاد العالمي، أنه في العشرين عامًا الأخيرة، باتت الكفة تميل أكثر باتجاه الشرق، متمثلا في القطار السريع القادم من بكين، تلك المدينة التي باتت أقوى عواصم العالم اقتصاديا وربما سياسيا، فالصين رغم أنها الدولة الأولى في العالم مواجهة لأزمة كورونا، إلا أنها  اتخذت خطوات حاسمة ومهمة للخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، حتى إنها لم تكتف بذلك، بل قدمت مساعدات لدول أخرى، ما يساهم في تعزيز مكانتها الاقتصادية والسياسية في مختلف أنحاء العالم، وذلك على عكس ألمانيا التي نجحت فقط في السيطرة على الفيروس داخليا دون مساعدة أي أطراف خارجية.

أما أكثر الخاسرين من تلك الأزمة هي الولايات المتحدة الأمريكية، فقدت تكبدت خسائر كبيرة في مختلف النواحي، حيث شهدت عددا كبيرا من حالات الإصابة والوفيات، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي ستظهر ملامحها مستقبلًا حيث تراجعت السمعة العلمية الأمريكية كثيرا، وبدت منظومتها الطبية هشة بشكل صارخ أمام العالم أجمع ما سيعمل على تراجعها ثقافيا وفنيا أيضا.
 
وفيما يتعلق بالنظم والإدارات الحاكمة للعالم، فإني أري أن دونالد ترامب، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، هو أكبر الخاسرين فقبل وقوع أزمة كورونا كانت فرص فوزه بالانتخابات المقبلة تقارب ٦٠ بالمائة، أما الآن وبعد الفشل الذريع في إدارة ومواجهة الأزمة، حيث ذكرت بعض التقارير أن ترامب كان قد اتخذ قرارا بإغلاق أحد المراكز البحثية المتعلقة بمواجهة الوباء عقب توليه الحكم بحجة تقليل النفقات، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ذهب لاتهام الصين بشكل مباشر بأنها مسؤولة عن هذا الوباء، ما يعرض المصالح السياسية الأمريكية للتراجع حيث تمتلك الصين تعاطفا دوليا كبيرا جراء هذا الوباء، إضافة لوقف ترامب المساعدات الأمريكية لمنظمة الصحة العالمية ما يقوض الدور الأمريكي بوصفها كبيرة للعالم.

العالم الآن أمام تحد كبير، تحد ستتغير معه خريطة العالم في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبات جليا أنه بات واجبا على المجتمع العالمي أن يكون إنسانيا أكثر، وأن يكون ضمير الفكر حيًا تجاه الإنسان وأن تكون إنسانية العلم وممارساته أكثر أخلاقية ومراعاة للمخاطر التي قد تنجم عن التجارب العلمية المختلفة، خصوصا تلك المتعلقة بالجوانب البيولوجية والهندسة الوراثية؛ التي رغم فوائدها العديدة للإنسان إلا أنه يمكننا أن نضعها أو نصنفها من ضمن التكنولوجيات الخطرة على حياة الكائنات الحية بشكل عام. 

ثمة قضية أخرى أثارت حفيظتي: هل الديكتاتورية لها جوانب مضيئة أحيانا؟ رغم أنني من أنصار المذاهب التي تولي الحرية الإنسانية قدرا كبيرا، وداعما لفكرة الحكم الديمقراطي القائم على المشاركة وحرية الرأي، إلا أنني لمست جانبا مضيئا لنظام الحكم الديكتاتوري، فجميعنا يعلم أن الصين تعمل بهذا النظام، وعقب انتشار الفيروس بمدينة ووهان فرضت نظاما صارما حددت فيه القواعد العامة للتعامل مع الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد وبينت العواقب التي سيلاقيها من يخالف ذلك، ما ساهم بشكل واضح في محاصرة المرض في بؤرة انتشاره، في الوقت التي وجدت الحكومات الأوروبية صعوبات كبيرة في تحديد إقامة المواطنين ومنعهم من الخروج، خوفا من الملاحقات القانونية التي يكفلها القانون ونظام الحكم هناك، ولا أعني بهذا القول أنني أصبحت كافرا بالنظام الديمقراطي ومؤمنا بالديكتاتورية، بل أردت أن أبين أنه لا يوجد نظام سئ بشكل مطلق ولا يوجد آخر جيد بشكل مطلق، فبينما كانت أثينا الديمقراطية متميزة ثقافيا وعلميا كانت إسبرطة الديكتاتورية تتفوق في الحروب والمعارك. 

أما في الشأن المحلي المصري فحقيقة ورغم المشكلات العديدة التي تعانيها إلا أنني أجد الدولة المصرية تتخذ خطوات سريعة لأول مرة منذ زمن بعيد؛ لمواجهة هذه الأزمة وغيرها من الأزمات، فمجلس الوزراء والرئيس والمنظومة الطبية الذين نرفع لهم احتراما منقطع النظير؛ وكذلك المحافظين والأمن الذين يعملون جميعهم ليل نهار للحفاظ على استقرار الوضع الصحي دون إغفال الجوانب الأخرى ومراعاة الفئات الأكثر فقرا في محاولة جادة للخروج من الأزمة بشكل جيد.

وفي نهاية حديثي، فإنني أطلب من الجميع أن يحافظوا أكثر على أنفسهم وذويهم، وأن يمكثوا في منازلهم قدر الإمكان لنتمكن سويا من التغلب على هذا الوباء.