تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} الآية 51 من سورة التوبة
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 51 من سورة التوبة
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)}
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} الحديث هنا عما يصيب الإنسان أو ما يحدث له، فإن حدث للإنسان شيء يأتي منه خير، يكون بالنسبة له حسنة؛ وإن أتى منه شر يكون من وجهة نظره سيئة، إذن فالإصابة هي التقاء هدف بغاية، إذا تحقق الهدف وجاء بخير فهو حسنة، وإن جاء بِشَرٍّ فهو سيئة. والمصائب نوعان: مصيبة للنفس فيها غريم، ومصيبة ليس فيهاغريم، فإن اعتدى عليّ واحد بالضرب مثلاً يصبح غريمي، وتتولد في قلبي حفيظة عليه، وغيظ منه، وأرغب في أن أرد عليه وأثأر لنفسي منه، ولكن إن مرضت مثلاً فمن هو غريمي في المرض؟ لا أحد.
إذن: فالمصائب نوعان؛ نوع لي فيه غريم، ونوع لا يوجد لي غريم يمتلئ قلبي عليه بالحقد، ويرغِّبنا الحق سبحانه وتعالى في عدم الحقد والعفو عن مثل هذا الغريم، فيقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
وهنا ثلاث مراحل: الأولى كظم الغيظ، والثانية هي العفو، والثالثة هي أن تحسن؛ فترتقي إلى مقام من يحبهم الله وهم المحسنون.
وكذلك يقول الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
أي: من صبر على ما أصابه، وغفر لغريمه وعدوه، فالصبر والمغفرة من الأمور التي تحتاج إلى عزم وقوة حتى يطوّع الإنسان نفسه على العفو وعدم الانتقام.
أما المصائب التي ليس للإنسان فيها غريم فهي لا تحتاج إلى ذلك الجهد من النفس، وإنما تحتاج إلى صبر فقط، إذ لا حيلة للإنسان فيها. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا اللون من المصائب: {واصبر على ما أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].
لأن العزم المطلوب هنا أقل، ولذلك لم تستخدم (لام التوكيد) التي جاءت في قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
ولا بد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه عن المشاعر البشرية حين قال: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
هذه الآية الكريمة تمثل مراحل ما يحدث في النفس، فالمطلوب أولاً أن يكظم الإنسان غيظه، أي أن الغيظ موجود في القلب، ويتجدد كلما رأى الإنسان غريمه أمامه، ويحتاج هذا من الإنسان أن يكظم غيظه كلما رآه، ثم يرتقي المؤمن في انفعاله الإيماني، فيأتي العفو، وهذه مرحلة ثانية وهي أن يُخرجَ الغيظ من قلبه، ويحل بدلاً منه العفو.
ثم تأتي المرحلة الثالثة: {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
أي: أن هذا إحسان يحبه الله ويجزي عليه، وهو أن تحسن لمن أساء إليك، فتنال حب الله، وهذا من كمال الإيمان؛ لأن العبيد كلهم عيال الله، واضرب لنفسك المثل- ولله المثل الأعلى- هَبْ أنك دخلت البيت، ووجدت أحد أولادك قد ضرب الثاني، فمع من يكون قلبك وأنت رب البيت؟ لابد أن يكون قلبك مع المضروب، لذلك تُربِّتُ على كتفه وتصالحه، وقد تعطيه مالاً أو تشتري له شيئاً لترضيه، أي أنك تحسن إليه.
وما دمنا كلنا عيال الله، فإن اجترأ عبد على عبد فظلمه فالله يقف في صف المظلوم. إذن فمن أساء إليك إنما يجعل الله إلى جانبك. أفلا يستحق في هذه الحالة أن ترد له هذه التحية بالإحسان إليه؟
إن الولد الظالم يرى أخاه المظلوم وقد انتفع بعطف أبيه، وقد يحصل الابن المظلوم على شيء يريده، والظالم في هذه الحالة إنما يحلم أن يكون هو الذي حدث عليه الاعتداء ليحصل على بعض من الخير.
والحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوصينا حين تأتي المصائب أن نرد على الكافرين ونقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} وهكذا تُرَدُّ المسائل كلها إلى حكمة خالق الكون ومُدبِّر أمره؛ فقد يحدث لي شيء أكرهه؛ ولكنه في حقيقة الأمر يكون لصالحي، فإن ضربني أبي لأنني أهمل مذاكرتي، أيكون ذلك عقاباً لي أم لصالحي؟
إن أنت نظرت إلى المستقبل والنجاح الذي سوف تحققه في الحياة إن ذاكرت، فهذا العقاب لصالحك وليس ضدك، وكذلك لابد أن نأخذ أحداث الله في كونه بالنسبة للمؤمنين، فإن هُزموا في معركة، فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى الخير في دينهم؛ وإلى أنهم لابد أن يعرفوا أن النصر له أسباب وهم لم يأخذوا بها؛ فلهذا انهزموا.
ولله المثل الأعلى، فنحن نجد الأستاذ- وهو يأخذ الكراسات من التلاميذ ليصحح لهم أخطاءهم- يعاقب المخطئ منهم، وفي هذا تربية للتلاميذ.
إذن: إن رأيتم مصيبة قد نزلت بنا وظننتم أنها تسيئنا فاعلموا أننا نثق فيمن أجراها، وأنه أجراها لحكمة تأديبية لنا، وأن كل شيء مكتوب لنا لا علينا، الذي كتبه وهو الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي...} [المجادلة: 21].
إذن: فنحن نعلم بإيماننا أن كل ما يصيبنا من الله هو الخير، وأن هناك أحداثاً تتم للتأديب والتهذيب والتربية، لنسير على المنهج الصحيح فلا نخرج عنه، فالإنسان لا يربي إلا من يحب، أما من لا يحب فهو لا يهتم بتربيته، فما بالنا بحب الخالق لنا؟ إن الأب إن دخل البيت ووجد في فنائه عدداً من الأولاد يلعبون الورق؛ وبينهم ابنه، فهو ينفعل على الابن، ولكن إن دخل البيت ووجد أولاد الجيران يلعبون الورق فقد لا يلتفت إليهم، فإذا أصابت المسلمين ما يعتبره المنافقون والكافرون مصيبة يفرحون بها، فهذا من غبائهم؛ لأن كل ما كتبه الله هو لصالح المؤمنين به، إما أدباً وإما ثواباً وإما ارتقاءً في الحياة، ولذلك فهو خير، ومن هنا كانت الآية الكريمة {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} وما كتب الله للمؤمنين إنما هو في صالحهم.
ثم يزيد الحق سبحانه وتعالى المعنى تأكيداً؛ فيقول سبحانه: {هُوَ مَوْلاَنَا} وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى أمور المؤمنين وهو ناصرهم، فالمولى الأعلى لا يسيء إلى مَنْ والاه، ثم يأتي الإيضاح كاملاً في قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}؛ لأن الله الذي آمنتَ به هو إله قادر حكيم، فإذا جرتْ عليك أمور فابحثها؛ إن كانت من فعل نفسك، هنا عليك أن تلوم نفسك، أما إن كانت من مجريات الله عليك، فلابد أن تفهم أنها تحدث لحكمة.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطي الكافر مقومات حياته، ولكنه يعطي المؤمن مقومات حياته المادية والقيمية معاً. وبهذا المفهوم نعرف أنه إن أصابنا شيء نكرهه، فليس معنى ذلك أن الله تخلى عنا، ولكنه يريد أن يؤدبنا أو يلفتنا لأمر ما، فإنه لو لم يؤدبنا أو يلفتنا لكان قد تخلى عنا حقًا.
والحق سبحانه وتعالى حين يخطئ المؤمن تجده سبحانه يلفته إلى خطئه، وفي هذه الحالة يعرف المؤمن أن الله لم يتركه؛ لذلك لا يقولن أحد: إن الله تخلى عنا، فهذا ضعف في الإيمان وبالتالي فإنه ضعف في التوكل. ولكن قل: إن الله حين يؤدبك فهو لا يتخلى عنك، فساعة تأتي المصيبة اعلم أنه لا يزال مولاك. وما دام مولاك يحاسبك على أي خطأ ويصوِّبه لك، فثِقْ به سبحانه وتوكل عليه.
وعلى سبيل المثال: لنفترض أن إنساناً اتكل عليك في أمر من الأمور، ثم أخطأتَ أنت في هذا الأمر، لابد أن يأتي لينبهك إلى ما أخطأت فيه ويقترح عليك وسيلة لإصلاح الخطأ، وفي هذه الحالة ستجد نفسك ممتلئة بالثقة في هذا الإنسان، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى حين نتوكل عليه ويُصوِّب لنا كل أمر؟
ولكن إياكم أن تنقلوا التوكل من القلوب إلى الجوارح. ولذلك يقال: الجوارح تعمل والقلوب تتوكل. فأنت تحرث الأرض وتضع فيها البذور وترويها، وهذا من عمل الجوارح لابد أن تؤديه، وبعد ذلك تتوكل على الله وتأمل في محصول وفير ينبته الزرع، فلا تأتي آفة أو ظاهرة جوية مثل مطر غزير أو ريح شديدة؛ فتضيع كل ما عملته، وبعد إتقانك لعملك يأتي دعاؤك لله سبحانه وتعالى أن يحفظ لك نتائج عملك.
أما الذين لا يعملون بجوارحهم ويعلنون أنهم متوكلون على الله، فنقول لهم: أنتم كاذبون؛ لأن التوكل ليس من عمل الجوارح بل من عمل القلوب، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل.
لكن على مَنْ نتوكل؟ إنك حين تتوكل على الحي الذي لا يموت، فلن يضيع عملك، أما إن اتكلت على إنسان مثلك حتى وإن كان ذا قوة، فقد تنقلب قوته ضعفاً، وقد يُكْرِهُك أو يُذِلُّكَ، وقد تصيبه كارثة فيموت.
ويُبلِّغ الحق سبحانه رسوله أن يرد على الذين يفرحون في مصائب المسلمين ليكشف لهم أن فرحهم بالمصيبة هو فرح أغبياء. فيأتي قوله الحق: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ...}.
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 51 من سورة التوبة