احمد عبد الوهاب يكتب: لعلنا الآن أدركنا...

ركن القراء

احمد عبد الوهاب
احمد عبد الوهاب



استيقظ من غفلة وغيبوبة طويلة، بحث عن أصدقاءه حوله فلم يجدهم، أمسك بريموت التليفزيون ليتنقل بين القنوات، كانت كل الأخبار تتحدث عن هذا "الكورونا". تساءل بلهجة استنكارية ما الذي أتى بكورونا إلى هنا؟ ألم نسمع بأنه في الصين حيث نشأ؟ مالنا وأخبار الصين فلندعها وشأنها.
واصل الضغط بيده على ريموت التليفزيون المصنوع في "الصين" متنقلا بين القنوات بحثًا عن مبارة لكرة القدم، متمنيًا أن يحرز ويتألق "فخر العرب" وأن ينجح في الفوز باللقب الإفريقي على حساب الأسد السنغالي.
أو بحثًا عن فقرة غنائية مع قنوات المهرجانات، يا حبذا مهرجان "بنت الجيران". وهو يدندن متمنيًا أن ينتصر السيد "شاكوش" في معركته أمام شاكر. 
او بحثًا في قنوات الدراما عن "نمبر وان" وهو يستعرض أدواره كتاجر سلاح بلطجي أو مدمن للمخدرات مع قصة "كفاح" يعقبها وصول للقمة. وبين كل فقرة وفقرة تجد إعلانا يستعرض اسطول سيارت النجم الفارهة أو ملابسه العارية في إحدى حفلاته وأخيرًا وهو يتفاخر بقيادة طائرة من على كرسي القيادة بعد أن قضى على المستقبل المهني لكابتن الرحلة. 
أو حتى بحثًا عن أخبار مشاهير الدنيا وما وصلت اليه قصصهم من خطوبة رجل الأعمال الشاب من الممثلة الجميلة أو خبر طلاق المغنية من المنتج الثري.
لكن مع كل عمليات البحث كانت كل النتائج تقريبا مخيبة لآمال صاحبنا، فالعالم كله منشغل بكورونا ولا يتحدث إلا عن كورنا. وصاحبنا منزعج أيما انزعاج إذ كيف الحياة- برأيه- بدون كرة القدم أو الدراما وبرامج التوك شو..

استسلم أخيرًا للأمر الواقع وجلس مرغمًا يتابع إحدى البرامج عن كورونا. الأخبار لا توحي بالتفاؤل، فهذا رئيس وزراء بريطانيا يخاطب شعبه بغباء سياسي لا يحسد عليه "استعدوا لفراق أحبتكم" ثم بعدها يصاب هو بالفيروس. و المستشارة الألمانية بلهجة جادة تقول " الأمر جدي ويجب أن تأخذوه بجدية" وفي فرنسا "حظر تجوال لأسباب طبية وليست سياسية" ثم ما لبس أن شمل الحظر العالم كله تقريبا.
جلس صاحبنا منتبها بعد أن كان متكئًا، شعر بالقلق وبأن الأمر بالفعل خطير. نظر حوله فلم يجد والده المسن، ولا ابنه الوحيد. هاتفهم فلم يجيبوا فازداد قلقه. رجع يقلب في القنوات مرغمًا بحثًا عن مزيد من المعلومات عن كورونا، بينما دقات قلبه تغطي على المكان. لم يبحث هذه المرة عن كرة القدم ولا الأفلام ولا أغاني المهرجانات، لم يكن يعنيه من تزوج ومن طلق. كل ما كان يدور بخاطره هو والده المسن وابنه الذي طالما تمنى أن يصبح لاعبا أو ممثلا يجني الملايين بينما يتقاضى الطبيب والمعلم الملاليم. 
فجاء استفاق على نغمة تليفونه، تمنى أن يكون المتصل والده، لكن لم يكن، بل كان خبر وفاته بكورونا. وقف متلبدًا، لم يستطع حتى وداعه. ثم تذكر ابنه وسنده. حينها لم يتمن أبدًا أن يكون لاعبًا ولا ممثلًا، تمنى فقط أن يراه، وإذا قُدر له العيش أن يصبح إنسانا نافعًا لنفسه ومن حوله. لعله الآن عاد من غيبوبته حقًا. لعله الآن أدرك..

لسنا ضد شخص لاعبي الكرة ولا المحترمين من الفنانين لكننا ضد الخلل في ترتيب الأولويات وفي العدالة الاجتماعية في العالم. وإلا فدعونا نسأل أنفسنا بعض الأسئلة:
هل يستطيع لاعبو الكرة ممن يتقاضون مئات الملايين من الدولارات إنقاذ العالم الآن من أزمة كورونا؟
هل ينجح "نمبر ون" بأسطول سياراته وعضلاته من اكتشاف مصل مضاد للفيروسات؟
كم من الملايين تم إنفاقها على كرة القدم وعلى إنتاج مسلسلات وأفلام وبرامج توك شو معظمها مغيبة للعقل كانت كفيلة ببناء المستشفيات والمدارس؟
كم من مبالغ حتى أنفقت في بناء مستشفيات ومدارس "استثمارية" لا يُعالج أو يتعلم فيها إلا من يستطيع؟
كم من مبالغ أنفقت لإنشاء مدن ومصايف وأماكن ترفيهية للأثرياء فقط؟
بل كم من تبرعات حتى جمعت لبناء مساجد أو كنائس دون الحاجة اليها؟ ألم يكن من الأولى توجيهها للتعليم والصحة صدقة عن أصحابها؟
الأمر ليس دعوة لهجر دور العبادة أبدا، بل بالعكس هي دعوة للعودة إلى العبادة بغض النظر عن مكان العبادة. اليس حفظ النفس البشرية بتوفير مأوى طبي مقدم على أي شي؟ ألسنا نتقرب الله بعبادتنا ومعاملتنا؟ إن بناء المستشفيات والمدارس لا يقل أهمية ابدأ عن دور العبادة. بل إن حفظ النفس البشرية وحمايتها من الهلاك بتقديم أسباب النجاة مقدم على أي شي في مقاصد الشريعة.

لعلنا الآن أدركنا مع أزمة كورونا ضرورة إعادة ترتيب الأولويات في مجتمعاتنا. فالاستثمار في الصحة و التعليم و البحث العلمي بعيدًا عن "كفتة عبد العاطي" أصبح ضرورة لا خلاف عليها ولا مجال للنقاش فيها.

من غير المعقول أن يتعب الأطباء طيلة عمرهم في دراسة شاقة ثم لا يجدوا تقديرًا ماديًا يليق بهم ويعينهم على مواصلة البحث العلمي مما يضطرهم للهجرة أو للعمل الخاص في عياداتهم ويفتح بابًا للفساد.
من غير المعقول أن لا يتم تقدير المعلم ماديًا ومعنويًا، فضلا عن عدم إعداده تربويًا، ثم بعد ذلك نلوم عليهم لماذا اتجهوا للدروس الخصوصية، ولماذا تردت النتائج وخرجنا من قائمة التصنيف العالمي في التعليم.
من غير المعقول أن تحظى الآلة الإعلامية والرياضية بنصيب الأسد في هذا العالم من المال والشهرة في حين أن الأساسيات لم تكتمل. الصحة والتعليم ليسا رفاهية بل ضرورة. 
وحتى لا يفهم كلامي بشكل خاطئ:
أتمنى وبكل حب المساهمة في بناء دور عبادة لكن بعد المساهمة في بناء مستشفى معتمدًا على قوله تعالى "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"
أتمنى المساهمة في إنشاء صالات رياضية يستفيد منها الفقراء لكن بعد المساهمة في إنشاء مدرسة تكون نواة للبحث العلمي والتأهيل لبناء جيل يعرف قيمة العلم وطرائق البحث العلمي. 

يحضرني الآن مقتطفات من كلمات صادقة ليورجن كلوب مدرب ليفربول وأفضل مدرب كرة قدم في العالم ٢٠١٩ حين سأله أحد الصحفين:
 "لماذا دائمًا تبتسم حتى عندما تخسر، نراك مُبتسمًا في كثير من الأحيان؟"
اجاب كلوب: "أبتسم بسبب طفلي، لأني مُدرك أن كرة القدم ليست حياة أو موت، نحن لا ننقذ أراوح الناس، كرة القدم لا يجب أن تنشر الحقد والكراهية والبؤس، بل الفرح والإلهام."
" هذه الفقاعة التي نعيش فيها(يقصد كرة القدم) ليست هي العالم الحقيقي."
وصدق الرجل فالعالم الحقيقي هو من يحفظ حياة الإنسان، ويصون كرامته، ويمحو أميته فيميز بين الخبيث والطيب ويفرق بين المتن والهامش، ليعود نفعه على نفسه ومجتمعه سويا. أعظم مدرب في العالم لا يستطيع أن ينقذ صحة الناس غير أنه للأسف يحظى بتقدير أكبر بكثير من أكبر طبيب أو جراح.

لعلنا الآن أدركنا أنه علينا إعادة ترتيب الأولويات التي تحفظ حياة الإنسان وتكفل كرامته. ف "كرامة الانسان لا مساس بها"، هكذا نصت المادة الأولى من القانون الأساسي لألمانيا، لا مساس بها صحيًا، لا مساس بها تعليميًا، لا مساس بها في المأوى والمأكل والملبس، لا مساس بها إطلاقًا، منطلقًا من قاعدة الهرم حيث أبسط الحقوق، متدرجًا إلى أن تصل لقمته. وسبحانه عز وجل خلق الانسان فكرمه "ولقد كرمنا بني آدم".
لعلنا الآن أدركنا أن "كورونا" فرصة حقيقة لنضع الأمور في نصابها الطبيعي. فرصة للرجوع الى الله، فرصة للإصلاح من جديد. فرصة للتسامح بين المتخاصمين. فرصة لترك الظلم، فرصة لعمارة الأرض، فرصة لبناء الإنسان قبل بناء البنيان. فرصة لنتيقن بأن نعمة "العادي" لم تكن "عادي". كنا نصبح آمنين في سربنا وأوطاننا، معافين في أبداننا، عندنا قوت يومنا ويزيد، لكننا لم نكن ندرك أنه قد حيزت لنا الدنيا بحذافيرها. لعلنا الآن أدركنا.
فعسى أن نكره كورونا وهو بلطف الله خيرًا لنا. ورب كورونا نافعة إذا أحسنا الفهم حتى ولو كان ذلك متأخرًا. لكن أن تأتي متأخرًا خيرًا من أن لا تأتي. اللهم ردنا اليك ردًا جميلا. دمتم سالمين.