منال لاشين تكتب: إلا الجنيه يا طارق
القرار فى حاجة لإعادة نظر
تحديد سقف للسحب فى البنوك أدى إلى ازدحام يهدد بكارثة صحية
الإخوان استغلوا القرار لسحب الثقة من القطاع المصرفى ولهم محاولة فاشلة فى ثوره 30 يونيو
بنوكنا تملك 4٫2 تريليون جنيه
عن أعمال ومذكرات كبار المصرفيين ومحافظى البنك المركزى فى مصر أتكلم، رغم أننا أقدم دولة عربية عرفت البنوك، ولدينا بنك مركزى منذ أكثر من نصف قرن، رغم هذا وذاك فإن قطاع البنوك فى مصر بلا ذاكرة، فلا أحد من المحافظين فكر أن يدون تجربة النجاح والفشل. ويندر أن تجد مصرفى مهما علا شأنه قد أصدر مذكراته أو حتى كتبها، لو كتب المحافظون مذكراتهم لما اتخذ محافظ البنك المركزى طارق عامر قراره المعيب والمخيف والمقلق، وأقصد بالطبع قرار تحديد أو سقف للسحب من البنوك.
لو كان لدينا مذكرات للدكتور الراحل مصطفى خليل رئيس الحكومة السابق ورئيس المصرف العربى لسنوات طويلة، لو كتب الدكتور مصطفى مذكراته لعرف طارق عامر وفريقه خطيئة قرار السقف.
كان الدكتور مصطفى خليل رئيسا للمصرف العربى واندلعت أزمة لوكيربى وتورطت الحكومة الليبية أو بالأحرى سلطة القذافى فى القضية، وامتلأ السوق المصرفى بشائعة خطيرة، وهى أن المصرف العربى سيوضع تحت الحراسة وربما يجمد لأن ليبيا تملك حصة فيه.
كان المنظر أمام الفرع الرئيسى مخيفا ويذيب أعصاب أقوى الرجال. قطع المودعون شارع عبدالخالق ثروت وشلوا حركة المرور وحاصروا الفرع الرئيسى وتعالت أصواتهم الهادرة الغاضبة: عايزين فلوسنا، وصلت الأصوات إلى رئيس المصرف من ناحية وتوالت صرخات الفروع من المظاهرات من ناحية أخرى، ولكن لا الأصوات ولا المظاهرات نالت من أعصاب الدكتور مصطفى خليل، كان الرجل عبقريا فى فهم نوازع البشر قبل قواعد البنوك، كان الرجل قد اتخذ قراره، وأمر بإعطاء كل من يريد سحب أمواله من البنك. خالفه فى الرأى بعض المصرفيين العاملين معه. ولكنه أصر وشرح وجهة نظره، المودعون يتحركون خوفا على أموالهم بسبب إشاعة، لو منعناهم من سحب ودائعهم سيزيد الأمر تعقيدا، وتتأكد الشائعة، وهكذا مر اليوم الأول والثانى على المصرف وليس لديهم عمل سوى رد الأموال للمودعين، بعد ذلك استمروا فى الموافقة على السحب بشرط ألا يعود المودع لوضع أمواله فى المصرف مرة أخرى، كانت الرسالة واضحة: (عايز فلوسك خدها ولكن لم تتمكن مرة أخرى من إعادتها للبنك) ولتلبية طلبات السحب طلب مصطفى خليل إحضار بعض الودائع الدولارية للبنك من اليابان، بدأت الناس تعيد التفكير، قال المودعون لبعضهم يبدو أنها مجرد شائعة. وبالفعل هدأت النفوس وماتت الشائعة. مصطفى خليل كان مهندسا، ولكنه كان سياسيا عقرا. كسياسى يدرك أن أخطر وأسوأ إجراء هو أن تمنع الناس من سحب أموالهم وقتما شاءوا، وقد تكرر نفس الأمر خلال ثورة يناير. فقد أصر محافظ البنك المركزى السابق وأبو الإصلاح المصرفى الدكتور فاروق العقدة على نفس المنهج حفاظا على ثقة المواطنين فى القطاع المصرفى، ولاشك أن طارق عامر يعرف كيف ساعد الجيش فى توفير الأموال للبنك المركزى والبنوك بحيث لا يتعرض أى بنك لمخاطر نقص السيولة وهدم الثقة فى القطاع المصرفى. كانت سيارات الأموال تتحرك وسط المظاهرات، والطائرات تجوب المطارات. بل إن الإخوان فهموا اللعبة فقاموا خلال ثورة 30 يونيو بغلق فرع للبنك الأهلى يملك الخزينة الرئيسية للبنك من خلال تمثيلية مظاهرات للعاملين، وهم يعرفون أن هذه الخزينة تغذى عدة فروع بالأموال، وذلك لمنع صرف المعاشات وإظهار البنك الأكبر فى مصر بمظهر المفلس، وعلى الفور اتخذ رئيس البنك هشام عكاشة الإجراءات والاتصالات المناسبة لتفويت الفرصة على الإخوان. كان الإخوان يريدون لقطة مجرد لقطة للمصريين أمام أكبر بنك، ويعجزون عن سحب أموالهم أو معاشاتهم، هذه اللقطة كفيلة بإشعال جبل من الشائعات هز أكبر اقتصاد فى أكبر دول العالم.
ولذلك فإن أسوأ إجراء للمحافظ طارق عامر حتى الآن هو قرار وضع حد أقصى للسحب اليومى، وقد انتظرت أسبوعا وتابعت توابع القرار وكانت النتائج مخيبة لتوقعات المواطنين.
وعكس الكثير من الإجراءات الإيجابية التى اتخذها طارق عامر لدعم كل فئات المجتمع وحماية الناس من الكورونا.
1- أسباب واهية
حين أصدر المحافظ قرارا بوضع سقف للسحب اليومى 10 آلاف جنيه للأفراد، و50 ألفا للشركات اعترض البعض على ضآلة الرقم، ولكن بعيدا عن الرقم، فإن القرار نفسه يحمل الكثير من المشاكل، ولاشك أن المحافظ قد شعر بذلك فتحدث للمصريين من خلال مكالمة هاتفية فى أحد البرامج، برر طارق عامر حكاية السقف بمبرر غريب. قال المحافظ إن المصريين سحبوا 30 مليار جنيه فى أسبوعين، وهو رقم أكبر من الاحتياجات الطبيعية أو أكثر من المعتاد، الرقم نفسه أصم لا يعبر لوحده عن دلالة معنية، 30 مليارا مبلغ مهول للمواطن العادى، ولكنه مجرد نقطة فى بحر بالنسبة للودائع فى البنوك المصرية.
كما أن المبلغ نفسه لا يمثل علامة استفهام أو يثير الريبة. ففى عيد الأضحى الماضى سحب المصريون فى أسبوع 22.2 مليار جنيه، فى الفترة من 3 أغسطس حتى 8 أغسطس ثم عادوا بعد العيد فى الفترة من 9 أغسطس حتى 13 أغسطس وسحبوا 9٫5 مليارات جنيه. ولاشك أن الرعب من كورونا وتوابعها دفع المصريين إلى سحب أموال كثيرة إما للشراء بغرض التخزين، أو الشعور بالأمان بوجود الأموال فى البيوت، ما حدث كان سلوكا بشريا طبيعيا فى ظل أزمة كونية، أزمة لا يعرف أحد مداها ولا نهايتها. ما حدث لا يحتاج إلى تفسيرات مؤامرتية أو شطارة مصرفية. كثير منا أصابه الرعب فاندفع يبحث عن الأمان فى صورة فلوس كاش أو بضائع. ففى الأزمات والمحن الكبرى يتوقف العقل البشرى بفعل الخوف، ولكنه سرعان ما يعود للعمل وتهدأ الزوابع والأعاصير. ولذلك فالسبب الذى ساقه طارق عامر لتبرير قراره لا يقنع طلاب السنة الأولى فى كلية التجارة أو موظف تحت التمرين فى بنك.
2- الشبح
فى حديثه التليفونى ألمح طارق عامر إلى وجود سبب آخر يجعل الناس تهرول لسحب أموال من البنوك. لم يفصح صراحة عن السبب أو بالأحرى الشبح الذى يطارد المحافظ الحالى أو أى محافظ آخر. شبح فقد السيطرة على الدولار. وقد كتبت منذ ثلاثة أسابيع أن الدولار يشهد ارتفاعا مؤقتا فى سعره نتيجة لعوامل كثيرة، وللأمانة هذا الارتفاع المؤقت لا يمكن أن يتحمل طارق عامر وزره. فالارتفاع مرتبط بتوابع كورونا على الاقتصاد المصرى، وهبوط إيرادات مصر من السياحة والتصدير وقناة السويس، وقد تلحق تحويلات المصريين العاملين فى الخارج بهذه القائمة. وقد بدأت روائح سوق سوداء تصل إلى أنف الخبراء والمتابعين وبالطبع المحافظ، ولذلك أراد أن يفرمل سحب الأموال خوفا من استخدامها، لشراء ولتخزين الدولار مرة أخرى.وهذه الظاهرة تعرف بالدولرة، فالخوف من الدولرة وعودة السوق السوداء كان الدافع والسبب الأول والأخير لإقدام المحافظ على قرار تحديد سقف للسحب، بل وللإيداع..فربما تستخدم هذه الإيداعات لتمويل شراء دولارات.
ولكن طارق عامر كخبير يعلم أن الحل الناجح والناجع والمثمر لمواجهة رائحة السوق السوداء ليس بالتقييد. يجب أن نتحمل ارتفاعا مؤقتا فى سعر الدولار. أو نترك هذا الارتفاع يعبر عن نفسه فى القنوات الشرعية لتجارة الدولار، وعندما يكون السعر المعلن فى البنوك أو الصرافة معبرا عن وضع الاقتصاد، فإن السوق السوداء لم ولن تجد لها مكانا. بالإضافة إلى مراقبة صارمة للمضاربين على الدولار.
3- مظاهرة متكررة
أما فكرة أو إجراء وضع قيد أو حد أقصى للسحب فقد تركت آثارا سلبية على كل الاتجاهات. فروع البنوك تشهد زحاما أشبه بالمظاهرة يهدد بانتشار كورونا، خاصة مع بداية صرف رواتب شهر إبريل، وأصبح مطلوبا من المواطن أن يذهب مرتين أو ثلاثة أو أربعة للحصول على راتبه. أما الموظفون الذين يتقاضون رواتبهم من خلال الشيكات، فقد عانوا الأمرين. بعض الفروع رفضت صرف الشيك ومنح صاحبه الـ10 آلاف جنيه. وطالبته بانتظار خمسة أو سبعة أيام عمل، وهى كارثة اجتماعية لمن يدفع إيجارا أو التزمات شهرية.
الأخطر أن القرار أعطى فرصة لا تعوض للإخوان وأعداء مصر للضرب تحت الحزام، فمنع المودع من سحب أمواله يخلق بيئة صالحة جدا لشائعات ضرب الاقتصاد، وهو ما حدث بالفعل، فسرعان ما انتشرت شائعات حول منع السحب من البنوك فى شهر يوليو، وشائعات أخرى بضعف البنوك المصرية، وبالنسبة للشائعة الأولى فقد تولى البنك المركزى نفسه الرد عليها ونفيها. أما الشائعات الأخرى فتجد طريقها مع الأسف لدى بعض البلهاء.
يا جماعة الخير بنوكنا تعانى من تخمة وسمنة من كثرة الأموال المكدسة لديها، البنوك المصرية لديها سيولة عالية جدا مثل سيولة الماء فى نهر النيل، أو أعلى هضبة فيكتوريا. حجم السيولة فى بنوك المصريين لا تحسب بالمليار جنيه، بل بالتريليون، أى آلافا مؤلفة من مليارات الجنيهات. لدينا 4٫2 تريليون جنيه سيولة فى البنوك ولدينا قطاع مصرفى قادر على تخطى ما هو أسوأ من كورونا، ولذلك أدعو طارق عامر لتغيير قراره لأنه بجد مؤذى صحيا واجتماعيا وسياسيا.