د. رشا سمير تكتب: حكاء مصر "المنسي" قنديل
كسرته حرب 67 فأخرج الأسى فى صورة كلمات
رصيده 6 مجموعات قصصية و 4 كتب تراثية و 12 كتابًا للأطفال و 5 روايات
أهميته تنبع من كونه مبدعًا وقاصًا فاخرًا
هل اقتصر الإبداع طويلا على صُناع الأدب أم أن الإبداع هو منحة من الخالق لأصحاب القدرة على نسج الحكى من الخيال؟!.
هل الرواية حقا هى أصل الإبداع أم أن الفنون الأخرى هى الوجه الأكثر إشراقا لحضارات أتت وأخرى توارت، لتُصبح تلك الرحلة التى نقضيها مستمتعين لاهثين وراء الأبطال بين صفحات الروايات لهى من أمتع الرحلات وأكثرها رسوخا فى ذاكرة القلوب؟..
بدأ فن الرواية من الغرب ثم عرفه العرب نتيجة الاحتكاك بالأدب الغربى وثقافته، من بعدها اتخذ الأدب مسارات متعددة غنية ومتطورة بفعل تطور المجتمع العربى، فظهرت الرواية على يد مبدعين عرب لأول مرة أمثال: فرح أنطون، نقولا حداد، جورجى زيدان وحسين هيكل.
إن الرواية العربية كشكل أدبى متطور لم تظهر فى عالمنا العربى إلا مع بداية الاجتياح الاستعمارى للمشرق العربى، وبالتحديد فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
التاريخ قديم، يحمل سلسلة طويلة من الأسماء والأعمال، لمع فيها من لمع وانطفأ من فشل، وبقيت أسماء وروايات بعينها راسخة فى الأذهان لتروى أصل الحكاية..
1- "المنسي" الحاضر على الورق:
هو مبدع حقيقى، تستطيع أن تلمح بريقه من بين كل الأسماء الأخرى، وترى نجاح إبداعاته بوضوح حتى لو لم يتم تسليط الضوء عليها بشكل كاف، وحتى لو لم ينصفه زمان «أنصاف المبدعين».
هو رجل بخليط مختلف.. هادئ، متزن، مثقف، مُحارب ومتواضع.. انسابت من بين أصابعه الكلمات على الرغم من دراسته العلمية.
كسرته نكسة 67 فأخرج الأسى من داخله فى صورة كلمات، وقتها بدأ بكتابة التُراث..
فى معركة قصيرة بين المعطف الأبيض والقلم، انتصر القلم فاختار أن يخلع المعطف الأبيض ليرتدى معطفا من كلمات.
هو.. محمد المنسى قنديل، الطبيب الذى استطاع وبلا جدال أن يصل إلى قمة النجاح من خلال أعمال روائية وقصصية صنعت منه أسطورة أدبية استكملت مسيرة المبدعين الكبار فى مصر.
2- تاريخ من الإبداع:
أراه بلا منازع متربعا على عرش الأدب فى مصر بروايات سافرنا فيها معه مستمتعين بكل كلمة بين صفحات التاريخ الذى يسكنه ويرويه بشغف، فهو رجل يحب الترحال وعاشق للسفر، يكتب عن الأماكن التى زارها والتى لم يزرها، بنفس التمكن.
رصيده، ست مجموعات قصصية، وأربعة كتب عن التراث، واثنى عشر كتابًا للأطفال وخمس روايات من أهم الأعمال التى ستبقى فى ذاكرة الأدب العربى للأبد.
فى بداياته الأولى اعتمد بشكل كبير على سيرته الذاتية بحسب كلامه لأنها كانت المعين الأساسى الذى لجأ إليه لصياغة الأفكار..كتب أول مجموعةٍ قصصية له بعنوان «من قتل مريم الصافى» التى ضم فيها قصته «أغنية المشرحة الخالية» فنال عنها أول جائزة وهو طالب فى كلية الطب، ونشرتها دار ليلى عام 1986، وفى عام 1986 كذلك نشر مجموعته القصصية الثانية «احتضار قط عجوز» من إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب ثم عام 1987 نشر مجموعته القصصية الثالثة «بيع نفس بشرية» التى تم تحويل إحدى قصصها إلى فيلم باسم «فتاة من إسرائيل».
فى عام 1988 أصدر روايته «انكسار الروح» التى عبر فيها بكل صدق عن هزيمة جيل بأكمله بسبب نكسة 67.. وفى عام 1993 قدم مرة أخرى مجموعة قصصية بعنوان «آدم من طين»، فى 2004 كتب رائعته (قمر على سمرقند) التى فازت بجائزة ساويرس، ثم فى 2009 كتب قطعة الدانتيلا الناعمة (يوم غائم فى البر الغربى) والتى وصلت إلى القائمة القصيرة من جائزة البوكر العربية.. ثم رواية (أنا عشقت) فى 2012، وأخيرا (الكتيبة السوداء) عام 2016.
روايات غاص فيها بقلب مصر القديمة والحديثة وصنع من الورق تاريخا استحق التقدير.
سألوه: ما سر اهتمامك بإرث مصر؟
أجاب: « أنا أعيش على كنز، هذه بلاد عمرها ثلاثة آلاف سنة على أقلّ تقدير، مرّت بها أحقاب كثيرة جداً من العصور المتنوِّعة بحيث كانت فى مرّة فرعونية وفى مرة مسيحية ومرّة كانت عربيّة إسلامية، أنا أمام كنز تاريخى، فكيف يُمكن ألا أغترف من هذا الكنز».
الحقيقة أن أهمية محمد المنسى قنديل لا تنبع من كلمة «الأكثر مبيعا»، ولا من عدد مُتابعين بالملايين على الإنستجرام، ولا حتى من تدافُع الشباب إلى ندواته بالآلاف فى معرض الكتاب، ولكن أهميته الحقيقية تنبع من كونه مُبدعًا وقاصًا فاخرًا لم تصنعه تلك الأدوات الزائفة التى صنعت الكثير من الأقزام الذين نراهم على الساحة اليوم، بل هو مبدع عملاق يمتلك القدرة على أن يأخذ القارئ فى رحلة مختلفة وتفاصيل دقيقة بأسلوب سردى متفرد.
اليوم أصطحبكم فى رحلة ممتعة بين بعض أعمال المنسى قنديل الصادرة عن دار الشروق المصرية للنشر، لصاحبها المهندس إبراهيم المعلم، الذى قرر بذكاء الناشر المثقف أن يتبنى إعادة طبع أعمال المنسى قنديل القديمة والحديثة لتصبح المجموعة الكاملة فى متناول يد القارئ العربى بأغلفة أنيقة تناسب المضمون.
3- قمر على سمرقند:
«بالتأكيد كانت هناك سمرقند مختلفة، مراوغة وخادعة الجمال، خلف هذا البهاء توجد أسباب البهجة مثلما يوجد نسيج الموت، من تلافيف الشوارع الضيقة إلى شارع طشقند نميسكا، لم نعد فى حاجة لركوب سيارة، نمضى ببطء تحت أغصان أشجار الحور، حتى ندخل إلى شوارع السوق القديم المرصوفة بالأحجار الضخمة».
هكذا ظللت ألهث وراء المنسى قنديل طيلة 458 صفحة، بين شوارع وأزقة وميادين سمرقند العتيقة، لأرى بقلمه القمر الساطع فوق المآذن والبيوت، وأرسو فى كل الأماكن الساحرة التى أخبرنى الروائى يوما أنه زارها وعاش سحرها بنفسه وكيف تأثر بروعة المكان، مما جعله يعود ليروى تفاصيلها فى رواية من أعظم ما كُتب من روايات تاريخية.
إنها حكاية «على» المصرى و«نور الله» السمرقندى.. رفيقا رحلة جمعتهما فيها الصدفة فى سيارة تاكسى يقودها نور الدين إلى سمرقند ويرافقه على باحثا عن رشيدوف صديق أبيه القديم.
تبدأ الرحلة من مدينة طشقند، ومع تصاعد أحداث الرواية تتكشف لنا شخصية نورالله الذى يهابه أهل بخارى، ويطلبون بركاته، وتظهر شخصيات أخرى مثل شخصية «لطف الله» الذى يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية فيقوم هو وبعض رجال الدين من الشباب المتعصبين بالاستيلاء على بعض مقار الحزب الشيوعى التى خلت بعد رحيل السوفيت والاعتصام بها.. ويعلنون أنهم يريدون دولة تقوم بتطبيق الشريعة الإسلامية، اختاروا لها اسم «إسلامستان».
ينسج المنسى قنديل فكرة الأسطورة من خلال المتن الروائى فى أسلوب غير مقحم على السرد، يوظف الأسطورة مع الشخصيات بكل إنسيابية وتناغم، كما هو الحال فى أسطورة «بيبى خاتون» وأسطورة مدينة بخارى مع جنكيز خان ليكتُب مداعبا سمرقند وكأنها أنثى جميلة ويقول:
«فوق واحد من هذه الصخور بكى الإسكندر العظيم وأعلن ندمه العظيم، كانت جيوشه قد اجتاحت ذلك الخط الفاصل بين الشرق والغرب، لم تلحظ عيونهم الباردة ذلك الجمال المتفرد لملكة الدنيا «سمرقند»، حطموا أسوارها التى لم تكن أبدا منيعة، ربما لأنها لم تتوقع أن يتعامل الأعداء معها بتلك الشراسة، انقضوا عليها، أحرقوا قصورها وخاناتها وحماماتها التى لم يكن ينقطع منها البُخار، لم يبق منها إلا حُطام مدينة بائسة».
(قمر على سمرقند) بكل إنصاف رواية تستحق أن تنال جائزة عالمية، على الرغم من أنها نالت جائزة ساويرس، إلا أننى أراها لم تنل التقدير المُستحق لرواية بهذا الإبداع.
4- يوم غائم فى البر الغربى:
تقع فى 485 صفحة، هذه الرواية هى أحد الأعمال المتميزة فى تاريخ الأدب المصرى، فهى رحلة تصطحبنا فيها (عائشة) إلى الأقصر، فى فترة الاحتلال البريطانى لمصر، وبالتحديد فى أثناء حكم اللورد كرومر والكفاح ضد الاستعمار.
عائشة فتاة تعيش فى كنف الأم التى تخاف عليها من بطش عمها وشهوانيته بعد زواجه منها عقب وفاة والد عائشة، وخوفا عليها، تمحو اسمها من سجل الأحياء وتودعها المدرسة الداخلية للراهبات، لتتحول عائشة إلى (مارى) وتبدأ الرحلة، التى من خلالها تظهر العديد من الشخصيات الحقيقية من بين الصفحات مثل اللورد كرومر، والمثال محمود مختار وهيوارد كارتر.
تقع عائشة أو مارى فى غرام المثال محمود مختار، حب لم يكتب له النجاح، فبعد مظاهرة حاشدة يتم القبض عليه وتعذيبه وإهانته، لم تتحمل كرامته هذه الإهانة ليحطم تماثيله ويقرر ترك البلد بأكملها مخلفا عائشة وراءه بقلب مكسور.
نرتحل مع عائشة من جديد إلى القاهرة عقب رحيلها عن البر الغربى بالأقصر ومن خلال تفاصيل كثيرة وأحداث لا أريد حرقها لمن لم يقرأ الرواية، نظل نلهث وراء الأحداث وكأن المنسى قنديل يقودنا بحبكة قصصية بالغة الروعة إلى مجهول لا يمكن أن نتنبأ به فى بداية القصة.
تحولت هذه الرواية منذ سنوات إلى عمل درامى، لكنه فى الحقيقة جاء هزيلا ولم يخدم الرواية، بل جاء مسخا لقصة كان من الممكن أن تصبح شهادة تاريخية هامة لحقبة زمنية زاخرة من تاريخ مصر.
5- لحظة تاريخ:
هذا الكتاب ليس رواية، وليس دراسة تاريخية، بل هو فى الحقيقة رحلة إبحار فى تاريخ مصر البعيد وإعادة صياغة ثلاثين حكاية حدثت فى الماضى بقلم الحاضر، فى إسقاط واضح يؤكد أن التاريخ يُكتب بنفس القلم.. فهل نتفادى ما ارتكبناه يوما من أخطاء، أم نقع فى نفس الفخ مرارا وتكرارا؟.
أشفق على الروائى من المجهود الشاق الذى يبدو جليا فى كل سطر من سطور الكتاب، فكتابة التاريخ هى من أصعب الحرف الإبداعية، ونجاح النص حين يخترق قلوب القراء هو النجاح الذى لا يُضاهيه نجاح.
يتنقل بنا الروائى من سلاطين المماليك إلى إشبيلية، ومن بلاط المستنصر بالله إلى تغريبة بنو هلال.. ومن جبروت ذى النون فى الأندلس إلى قلعة الناصر صلاح الدين الأيوبي..
فى واحدة من الثلاثين قصة، يأخذنا قنديل فى رحلة إلى حفل زفاف أخت الرشيد أو العباسة كما يحلو لهم أن ينادونها (علية بنت المهدى) على جعفر البرمكى سليل عائلات البرامكة التى خدمت هارون الرشيد وعائلته طويلا.
قبل حفل الزفاف تدخل أخته الصغرى (الفاختة) لتصرح له أن لديها ما يجعلها تطلب منه أن يمنع زفاف أختهم من جعفر، ليتضح لنا أن السبب هو علاقة جسدية وقعت بينها وبين جعفر بعد أن أغوته الفاختة.
هنا يجب أن أشيد بالرسومات الداخلية للكتاب والتى رسمها الفنان الشاب عمرو كفراوى لتعطى الكتاب مذاقا أكثر جاذبية.
فى النهاية:
تحية من القلب للروائى المتميز محمد المنسى قنديل، الذى حاولت أن أوفيه حقه وأسلط الضوء على بعض من أعماله المتميزة.
وأنا اليوم أرسل إليه رسالة بالأصالة عن نفسى والنيابة عن قرائه الذين ينتظرون بشغف روايته القادمة، (الكتيبة السوداء) صدرت منذ خمس سنوات، ومن وقتها ونحن نتلهف للجديد.
صديقى ساحر الكلمة، اشتقنا إلى قلمك الغائب، الذى أحدث فراغًا على الساحة الأدبية، أدعوك إلى احتلالها من جديد بعمل مختلف، يقينى أنه سيُضاف إلى قائمة أعمالك العظيمة..
نحن فى انتظارك يا عاشق مصر «المنسى» قنديل.