د. رشا سمير تكتب: كده بالطو!
عندما كنا طلبة فى كلية الطب كانت أحلامنا الشابة تتلخص فى الخمسة عين الشهيرة: (عيادة، عروسة، عربية، عزبة، عُمارة).
كانت تلك هى أمانينا كطلبة متفوقين وجُملة سمعناها ممن سبقونا الطريق، فكم قضينا من ليال طويلة فى الاستذكار للحصول على مجموع يسمح لنا بالالتحاق بكلية القمة، ومن وقتها ونحن نقضى الأيام ما بين المحاضرات والعيادات الخارجية والمشرحة والجرى وراء المرضى والامتحانات الشفوية التى استهلكت من صحتنا النفسية والذهنية الكثير، كنا ننظر لطلبة الكليات الأخرى وهم يجدون الوقت للرحلات وحفلات السمر ونتحسر، لكن كان لدينا هدف وأمل، فى مهنة رأيناها من أسمى المهن لأنها تحمل رسالة حقيقية وهى رسالة الشفاء والحياة، فكانت دعوات المرضى لنا بالستر والصحة هى أغلى أمانينا، وتحول الحلم فى نفوسنا من خمسة عين إلى مسئولية المهنة عقب التخرج والتكليف بوزارة الصحة، فى المستشفيات الحكومية رأينا قلة الإمكانيات وعدد لا نهائى من المرضى وساعات من العمل المُضنى، ولكننا فى النهاية كنا نرتدى البالطو الأبيض بكل زهو ورضا، وكأنه جواز مرورنا إلى المكانة السامية التى تمُيزنا عن كل البشر.
دعونى أستعرض معكم حياة أى طبيب حديث التخرج لا يمتلك الإمكانيات المادية التى تسمح له بفتح عيادة خاصة ولا يمتلك العلاقات الشخصية للعمل بمستشفى استثمارى، أو لديه الواسطة للحصول على فُرصة التعيين فى الكلية..هذا الطبيب الشاب يقبل التعيين بوزارة الصحة براتب قد لا يصل إلى ألف جنيه فى الشهر! كما يتقاضى الطبيب المقيم عن كل نوبة عمل شاق ومستمر 24 ساعة 75 جنيها، وبدل عدوى 19 جنيها (تم رفعها فى الأيام الماضية نظرا لخطورة مرض الكورونا لتصبح 35 جنيها!) مما يضعه من أقل رواتب الأطباء فى العالم ناهيك عن المعاش المتدنى الذى لا يسد رمقا عند التقاعد..
أما عن أماكن إقامة الأطباء ووسائل المعيشة اللائقة بهم فى كل المستشفيات فحدث ولا حرج، وكيف ننسى أطباء فقدوا حياتهم بسبب الإهمال مثل مأساة الطبيبة الشابة التى لقيت مصرعها نتيجة ماس كهربائى فى حمام أحد المستشفيات الحكومية والأمثلة كثيرة.
هل أذكركم بالتعديات التى تحدث كل يوم ضد الأطباء فى الطوارئ والمستشفيات، آخرها كان ما حدث فى معهد القلب ومستشفى المطرية من تكسير، وضرب مبرح لأطباء أصروا أن يحترموا مهنتهم ويقوموا بأداء واجبهم..
لماذا لا يقوم البرلمان بإصدار قوانين لحماية الأطباء؟ لماذا لا تمنح الدولة الطبيب حصانة طبية مثل تلك التى تُعطى للبرلمانيين وتُستغل أسوأ استغلال، فهل الطبيب الذى يقوم بحماية صحة البشر أقل أهمية من البرلمانى الذى يحصل على كل المزايا العينية وغير العينية دون التعرض لأى مخاطر؟!
يا سادة، دعونا من كل الشعارات والهُتافات التى ظهرت على الساحة مؤخرا بسبب مرض الكورونا، فالحقيقة العارية أن الأطباء فى مصر مُهانين، ولا يوجد اهتمام بأحوالهم على الرغم من كونهم يمارسون أهم مهنة فى التاريخ..الطبيب الذى لا يرى أبناءه وبالتالى تتحمل زوجته كل أعباء المنزل بمفردها لغيابه طوال اليوم ما بين المستشفيات والعيادات لمحاولة توفير حياة كريمة لأسرته، هو شخص يستحق أن نرد له اعتباره بشكل عملى وليس بحملات الدعم والتهليل على شاشات التلفزيون..
إن أستاذ الجامعة ورئيس أى قسم فى أى مستشفى جامعى يبلغ من العمر خمسين عاما وأكثر، يحصل على راتب يصل إلى ثمانى أو عشرة آلاف جنيه! (بعد الماجيستير والدكتوراه وأحيانا الزمالة)! ثم نسأل أنفسنا باستغراب: لماذا يفر الأطباء إلى الخارج؟، هل يلفظوننا أم نلفظهم نحن؟!
ويبقى السؤال، كيف نطلب من الأطباء الشبان أن يغضوا البصر عن لاعبى الكُرة والفنانين والفاشونيستا ومطربى المهرجانات، وهم من أضاعوا فى الأوهام عُمرا!.
بالأصالة عن نفسى وبالنيابة عن كل زملائى من الأطباء أشكر كل من كتب على صفحته يشكر مجهودهم وقت الحظر، الوقت العصيب الذين تركوا فيه بيوتهم من أجل حماية أرواح غيرهم، مُعرضين أنفسهم وأهلهم للهلاك..كما أترحم على كل أطباء العالم الذين فقدوا أرواحهم وهم يدافعون عن القسم الذى أقسموه يوم تخرجهم، علهم الآن فى جنة الله حيث الرحمة والعدالة..
كما نشكر مجهودات الدولة فى رفع بدل العدوى من 19 إلى 35 جنيه! ونشكر حملات الفنانين الإنسانية لدعم المستشفيات..ولكن...
دعونى أطالب المسئولين، وقبل أن تنتهى أزمة كورونا وترجع ريما لعادتها القديمة بالدفع بتغييرات جذرية وحقيقية فى منظومة الطب فى مصر، الأطباء هم ملائكة الرحمة، وللأسف هم أقل فئة فى الدولة من حيث كل شىء، حتى التقدير المعنوى..
أتمنى بعد أن تنزل كلمة «النهاية» لمرحلة الحجر وكورونا، وبعد عودة الحياة إلى طبيعتها ألا يتكرر مشهد 24/1 نهار خارجى، أمام بوابة المستشفى، حيث يخرج الأطباء من أبواب مستشفيات الحجر حاملين معاطفهم البيضاء، وبدل العدوى لازالت 35 جنيهاً، فينظرون خلفهم فى حسرة والدمعة تكاد أن تفر من أعينهم ويقولون: «كده بالطو»!.