"إيذاؤه جريمة ورعايته حق"... كيف كرمت مصر اليتيم عبر العصور؟
يعد اليتم في الشريعة الإسلامية على قمة السلم الاجتماعي، وليس أدناه كما يعتقد البعض، فالتوصية سواء في القرآن الكريم، أو في السنة النبوية المطهرة بمن فقد أبويه أو أحدهما متعددة، ومتنوعة، سواء بحفظ أموالهم، أو رعايتهم، أو حفظ أنسابهم، وليس أدل على ذلك من توصية الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، ولكن رعاية اليتيم في مصر لم تبدأ في العصر الإسلامي بل سبق ذلك بكثير.
اليتيم المصري القديم.. إيذاؤه جريمة ورعايته أخلاق وحمايته مهمة الملوك
يقول الدكتور أحمد بدران أستاذ الآثار المصرية القديمة بجامعة القاهرة، إن مصر منذ فجر التاريخ اهتمت باليتيم وبرعايته، وعُرف في النصوص الهيروغليفية باسم "نمح"، وأيضا "تفن"، وكانت رعايته تمثل التزاما أخلاقيا وجزءً من الضمير المجتمعي مستمد من الاعتقاد المصري القديم.
إيذاؤه جريمة
وتابع بدران أن المصري القديم كان ينفي عن نفسه جريمة إيذاء اليتيم أو اغتصاب ممتلكاته أو سلب ميراثه حيث ورد في كتاب "الخروج في النهار" المعروف بكتاب الموتى "أنني لم أحرم اليتيم من ميراثه"
وصفوا الإله أنه "زوج الأرملة ووالد اليتيم"
ومن مظاهر تكريم اليتيم في مصر القديمة ربطه باسم المعبود آمون، حيث كانت من صفاته أنه "زوج الأرملة" و"والد اليتيم" وتلك إشارة إلي النظام التكافلي في المجتمع، كما ورد عن المصري القديم مسجلًا على قطعة "أوستراكا" "بالنسبة لمن ليس لديه أطفال عليه أن يتبني يتيم ويقوم علي تربيته ورعايته".
كما ورد علي لوحة الهبة من عهد الملك أحمس الأول أنه أعطى الزوجة الإلهية أحمس نفرتاري العديد من الهبات والعطايا وذكرت أحمس نفرتاري حيث تمدح المعبود آمون قائلة: "لقد كساني بينما لم أملك شيئًا وأغناني بينما كنت يتيمة"، وذكر الملك أمنمحات الأول أنه: "أعطى السائل وأطعم اليتيم"، كما ذكر حكام الأقاليم أن "أعطي الأرملة وواسي وكفكف دموع اليتيم"
ويلاحظ من خلال النصوص المصرية القديمة أن رعاية الأرملة وحماية اليتيم وكفالته والإحسان إلي الفقير كانت محط اهتمام الملوك والحكام وأفراد الشعب المصري كله، وورد في تعاليم حينتي الثالث لولده مري كادع من عصر الانتقال الأول: أن الأب خيتي يحث ابنه على أن لا يرد الأرملة وأن لا يسلب جزءا من ممتلكات وميراث اليتيم".
بلاغة الفلاح الفصيح
ومن أفضل ما يروي عن اليتيم في مصر القديمة -والكلام لبدران- قصة الفلاح الفصيح حيث يخاطب "خو إن إنبو" المحمي من أنوبيست فلاح وادي النطرون الذي سلب من بضاعته عن طريق ناظر العزبة "جحوتي رنمتي نخت"، فيتوجه بالكلام إلي المعبود أوزير قائلًا "أنت والد اليتيم"، وكأن هذا هو اللقب الذي يحبه الإله، وتعد تلك أحد دلائل تكريم اليتيم.
تكريم اليتيم في مصر الإسلامية
وفي في العصر المملوكي تلوح لنا تكريمات اليتيم المتعددة، وتعد أشهرها حفظ أنسابهم، فكان المملوك الذي يتم استجلابه من بلاد الترك في أحيان كثيرة يكن مجهول الأب، حيث أن التتر والمغول اعتدوا على هذه البلاد وشردوا أسرها، فكثر هؤلاء الأطفال في الأسواق، واستكثر منهم ملوك مصر، وخاصة في العصرين الأيوبي والمملوكي.
وكان يُطلق على اليتيم مجهول الأب "ابن عبد الله"، على أساس أن أبيه بالتأكيد كان عبدًا من عباد الله تعالى، وفي هذا تكريم له بشكل ما، ومن أشهر سلاطين المماليك الذين حملوا هذا اللقب هو السلطان قلاوون، حيث جاء من جملة ألقابه، ابن عبد الله.
التعليم لم يكن يفرق بين الأطفال
كذلك تصلنا الأخبار من مدرسة السلطان حسن، وهو صاحب العمارة الإسلامية الشهيرة، في ميدان القلعة والتي تعد من عظمتها الهرم الرابع في مصر، وورد ضمن الحوادث التي وقعت في هذه المدرسة الشهيرة التي استضافت كبار العلماء، وعامة وخاصة شعب مصر، أن مئذنتها سقطت على عدد من الأطفال كان منهم الكثير من الأيتام، وبالطبع الحادثة مفجعة، وكادت تدفع السلطان حسن لإيقاف البناء، ولكنها تدل على العناية باليتيم وتعليمه، في نفس المدارس التي يتعلم فيها عامة وخاصة الشعب.
وكان التعليم في هذه المدارس يشبه التعليم الداخلي في أيامنا تلك حيث كان لكل طالب مكان إقامة، ووجبات ومصروف جيب، وملابس وكل ذلك بالمجان من مال الوقف الذي كان السلاطين يوقفوه على هذه المنشآت الخيرية.
ومما سبق نستنتج أن اليتم في هذه العصور لم يكن مميزًا بدار إيواء كالتي ظهرت في العصر الحديث، فالكتاتيب كانت مجانية يدخلها الأطفال جميعهم دون أن يتكلف أهلهم نقودًا، والمدرسة كانت داخلية يقيم الطالب فيها دون تمييز بين هذا وذاك، وقد يكون ذلك هو ما كسر حدة التمييز ضد الأيتام والتي هي ظاهرة بشكل كبير في العصر الحالي.