على يد الحملة الفرنسية.. كيف نقلت مصر فكرة الحجر الصحي إلى العالم العربي؟
اتخذت الحملة الفرنسية أثناء تواجدها فى مصر بعض الإجراءات الصحية بغرض تحسين الحالة الصحية فى مصر، وحرصا أيضا على سلامة صحة الجنود الفرنسيين، وقام الأطباء الفرنسيين بمجهودات عظيمة في هذا الشأن؛ منها بناء المستشفيات، وفرض الحجر الصحي، وتوزيع المنشورات على الأهالي، وتحريم دفن الموتى داخل المساكن، وصولًا إلى محاولة إنشاء أول حجر صحي في الوطن العربي، فكيف أصبحت مصر جسرًا لعبور الحجر الصحي من أوروبا للعالم العربي.
مع اليوم الأول للوجود الفرنسي
"منذ أن وطأت أقدام الفرنسيين أرض البلاد بدأت قيادتهم العسكرية فى اتخاذ إجراءات وقائية صحية" بهذه الكلمات كشفت الدكتورة ليلى السيد عبدالعزيز، أستاذة التاريخ الحديث وصاحبة كتاب "الأمراض والأوبئة وآثارها على المجتمع المصري (1798- 1813)" الإجراءات التي اتخذها الفرنسيين، مبينة أنها جاءت للحفاظ على قواهم من التعرض للأمراض والأوبئة التى تهاجم المصريين بين الحين والآخر، الناجمة من المناخ ذاته، والتغذية أو الأوبئة، مثل ضربة الشمس، التهاب العيون، الدوسنتاريا، والطاعون.
وأكدت عبدالعزيز في تصريحات إلى "الفجر"، أن أول أوامر الجنرال "بونابرت" كانت الأمر الصادر فى 29سبتمبر1798م القاضي بإنشاء مكتب لصحة وتنقية الهواء، وكان هدف هذا المكتب وضع نظامًا صحيًا لدفن الموتى، وتنظيف القاهرة من القاذورات والمخلفات التي من شأنها إفساد الهواء وتلويثه، وكانت أول تلك الإجراءات قيام القوميسير العام باعتماد مبلغ كبير من المال للإنفاق على المحاجر والمستشفيات التي أنشئت على عجل لكي تؤدي مهامها على الوجه الأكمل.
أول محاولة لحجر صحي عربي
وأضافت أستاذة التاريخ الحديث، أن نظام الحجر الصحي لم يكن نظاما استحدثه الفرنسيون، وإنما كان موجودا منذ عهد الرسول، فقد اكتشفه ونفذه وأمر به، فتم إنشاء حجر صحي في المدن الكبرى والموانئ، وتوقيع عقوبات صارمة بشأن مخالفة الشروط الصحية، وأقيمت ثلاثة مستشفيات عسكرية واحدة فى القلعة واثنتان عند مدخل الحى الأوروبي.
وبينت عبدالعزيز، أن الفرنسيون اهتموا مع بداية احتلالهم للبلاد بإنشاء المحاجر الصحية أو المعازلLazarets فأصدر القائد العام غداة وصوله للإسكندرية أوامره بإنشاء أول محجر صحي بالثغر ،لمراقبة الوافدين عبر البحر إلى البلاد بعد ما سمع عن انتشار وباء الطاعون بين حين وآخر في أنحاء مصر، ثم أصدر القائد العام أوامره بإنشاء أول إدارة صحية عرفتها مصر في تاريخها الحديث، وعهد إليها تنفيذ القواعد والتنظيمات الصحية المعمول بها في فرنسا، ووضع على رأس هذه الإدارة المواطن "بلانك Blance" الذي عرف باسم مدير مهمات المحاجر الصحية.
واتخذ الفرنسيون من المرتفع الواقع جنوب شرق المدينة وداخل نطاق أسوارها من شاطئ البحر مقرًا لأول محجر صحي (كورنتينة). وألزمت القيادة الفرنسية بعد استقرارها بالقاهرة قيادة الإسكندرية بإرسال كشوف شهرية إلى القيادة العامة تتضمن عدد المصابين من المرضى الداخلين إلى المحاجر الصحية، وألقابهم ورتبهم العسكرية والفرق التي ينتمون إليها؛ وجمع البيانات الشخصية عنهم -بحسب عبد العزيز-.
الحجر الصخي في القاهرة
واستكملت أستاذة التاريخ الحديث، أن الإدارة العامة بالقاهرة اهتمت بإنشاء عدة محاجر(كورنتينات) عند مخارج ومداخل العاصمة فى باب العزب بالقلعة وكورنتينة جزيرة بولاق لحجز القادمين إلى القاهرة من الوجهين البحري والقبلي، كما أنشأوا محجرا آخر بجزيرة الروضة تجاه الجيزة بعد انتقال الوباء للقاهرة مع بدايات الوجود الفرنسي بمصر، بخلاف محجري مدينة دمياط ومدينة رشيد، بالإضافة إلى المعزل الكبير الذي أنشئ في جزيرة الروضة وأعد وفق القوانين الصحية، وفي الجزيرة الواقعة إلى الشمال من جزيرة بولاق، انشأ الفرنسيون محجرا صحيا لاستكمال النظام الصحي الذى أقاموه في الإسكندرية.
إدارة الحجر الصحي
يتحدث كتاب الأمراض والأوبئة وآثارها على المجتمع المصري (1798- 1813)، عن وجود إدارة صحية مكلفة بإقامة أماكن الحجر الصحي، وتعمل السلطات الحربية بالتعاون مع الإإدارة الصحية ومساعدة رجال العلم على توفير جميع الطرق الوقائية، وأن يعمل الأطباء على تبديد المخاوف التى تولدها الأوهام وذلك بنشر تعاليم بسيطة وواضحة عن ظواهر العدوى وشرح الأسباب التي دفعت إلى اتخاذ الاحتياطات لدرء خطرها وبيان الطرق العلاجية الصحيحة التي تستند إلى الخبرة والعقل.
وبين الكتاب، أنه عند وصول الفرنسيين مصر، أسند أمر المحاجر الصحية إلى أحد المديرين ممن تتملكهم روح استقلالية تجاوز حدها وذلك في السنة السابعة، أما في السنة الثامنة أعاد القائد كليبر تنظيمها فكانت تتكون من كبير المنظمين ممثل رئيس الإدارات الحربية، والجنرال قائد سلاح المهندسين بصفته موجها ومنظما لعمليات البناء، وأخيرا من الطبيب والجراح وكبير صيادلة الجيش للقيام بعمليات التنظيم ومراقبة الخدمات الصحية ف المحاجر، وكانت النتائج أن المرض المراد الوقاية منه مرضًا متوطنًا في البلاد فلابد من أن تؤول إدارة المحاجر الصحية سواء بالداخل أو بالخارج إلى البحرية.
وتعددت الإجراءات التي اتخذها الفرنسيون لمواجهة المرض في الكرنتينة، حيث كان ينقل المصاب إلى الكرنتينة عندهم وإنقطع خبره عن أهله، إلا إن كان له أجل باقى فيشفى من ذلك ويعود إليهم صحيحًا، سواء في الدفن أو تشييع الجنازة أو التعامل مع المغسلين، ما جعل المصريون ينفرون من الحجر الصحي ويهربون.
المحاجر في عصر كليبر
ولم تتوقف المحاجر رغم الإخفاق، حيث أنشأ كليبر في القاهرة لجنة دائمة تعرف باسم (اللجنة الغير العادية للصحة العمومية) للإشراف بصفة عامة على المحاجر وتنفيذ أوامرها على الفور، وتتكون هذه اللجنة من القوميسير العام والجنرال قائد سلاح المهندسين وكبير أطباء الجيش وكبير جراحيه وكبير صيادلته، وثلاث لجان أخرى تابعة للأولى في الإسكندرية ورشيد وفى عزبة البرج، وتحمل كل منها اسم لجنة الصحة العمومية "ليسبيه" وتتكون كل منها من قائد الحامية وقوميسير الحروب وطبيب وجراح وصيدلي من الدرجة الأولى.
وأصبح كبار رجال الصحة في الجيش مكلفون بالإشراف على سير العمل في الخدمات الصحية بالمحاجر، مع صرف البراءات لضباط الصحة العمومية بناء على طلبهم، ويخصص لكل محجر طبيبان أو أربعة أطباء من الجراحين الأتراك، عند اللزوم، وستكون وظيفتهم وظيفة مساعدين ويتقاضى كل منهم 75 جنيها شهريا.
تطالعنا الوثائق الفرنسية، بأن القائد العام كليبر بعد توليه القيادة بأقل من شهرين يصدر أوامره إلى الجنرال "سانسون" قائد فرق المهندسين فى يوم19أكتوبر 1799م بإنشاء ثلاثة محاجر صحية في مناطق الطينة، ودمياط، وقطية، بعد أن أصبح طريق شبه جزيرة سيناء نحو بلاد الشام منذ حملة بونابرت على سورية يمثل أحد ميادين الحروب مع الجيوش العثمانية وبخاصة في عهد الجنرال كليبر وحتى تسليم الجنرال بليار لمدينة القاهرة في عهد قيادة الجنرال مينو.
وأحكم الحصار الصحي حول الإسكندرية بإنشاء المحاجر إلى جوار مداخل المدينة الرئيسة، وأهمها باب رشيد لمنع دخول أو خروج أية مواد غذائية دون الكشف عليها واختبارها من قبل الأطباء لتحديد مدى صلاحيتها للتداول، وهو إجراء لم تعرفه البلاد من قبل وأجبر المحجوزين بالمحاجر على غسل ملابسهم وتطهيرها وحصولهم على شهادة تفيد سلامتهم ووقايتهم من الأمراض والأوبئة.
المساواة في الحجر
لم يميز الفرنسيون في الإجراءات الصحية، فقد كان الحجر الصحي يطبق على الجميع، فنجد أن "بوسيلج poussielgue" (مفاوض فرنسي وقع على إتفاق العريش) الذي غادر الإسكندرية إلى طولون في 14 مارس 1800م وجد "ديزيه" مازال بالحجر الصحي بطولون.
ويروى أن السفن الداخلة إلى ميناء الإسكندرية كانت تحمل الوباء، وكان الفرنسيون يشددون في اتخاذ الإجراءات المانعة لدخول الوباء للبلاد، بعد أن فقدوا عددًا كبيرًا من رجالهم على الرغم من الاحتياطات السريعة التي اتخذوها على عجل لمجابهة هذا الخطر القادم، وظل معدل الوفيات يرتفع يوما بعد يوم بين الفرنسيين أنفسهم، وخاصة بين فريق الأطباء الذين واجهوا لأول مرة في حياتهم هذا العدو الغامض لهم.
شهادة الجبرتي
ويصف الجبرتي الوضع بقوله: "فحين عزمت على السفر وصمّمت، وأخذت فى الاستعداد وتأهبّت، حدثت عوائق في الطريق وموانع، ولا وزر بما قضى الله شافع؛ بسبب الكرنتينات التي هي من البلاء والآفات، أقيمت كالشجا في فم البر والبحر، بداعية أمر الطاغوت الذي يتلى علينا من حديثه سورة الإنشقاق والفجر. وحلوله بالقاهرة وضواحيها، وانتشاره في أرجائها ونواحيها".