بطرس دانيال يكتب: أين حقها؟
«ليس لأحدٍ حبٌ أعظم من أن يبذل نفسه فى سبيلِ أحبائه». نحتفل هذا العام بعيد الأم والأسرة فى أجواء مُلبّدة بمرضٍ أرعب العالم أجمع، فكيف نستطيع أن نحتفل به؟ مما لاشك فيه أن الأم والأب هما أكبر مثال للتضحية، وهما المدرسة التى تُرَّبى وتُعلّم وتُهذّب أطفال اليوم الذين سيصيرون رجال الغد، والمدرسة التى تقوم بتعاليم البطولة والشرف والإنسانية والرقى، وزمام المستقبل بيدهما، يُصلحانه إن قاما بواجبهما الحقيقى تجاه أبنائهما، لأن تأثيرهما على مستقبل هؤلاء له بالغ الأثر، فعلى عاتقهما تقوم الأوطان وتزدهر الحضارات وتعتز الشعوب، فهما رمز التضحية وبذل الذات وعنوان البطولة الحقيقية والوفاء، كما أنهما أمل الأوطان الساعية للعزّة والرقى، يُحكى أن ملاكاً أتى من السماء لزيارة كوكب الأرض فى يومٍ مشمسٍ من شهر الربيع، وكان يجول فى الحقول والمدن والقرى، وعند غروب الشمس وقبل عودته إلى بيته، أراد أن يأخذ معه تذكاراً جميلاً لهذه الرحلة الممتعة. فنظر إلى الزهور الموجودة بالحدائق، فأُعجب بمنظرها ورائحتها فقطف أجملها، وردد فى نفسه: «هل يوجد أفضل من هذا المنظر المبدع؟!» وبينما كان يسير رأى طفلاً ووجهه أحمر كالورد وعلى شفتيه ابتسامة بريئة، فأُعجب به، وقال: «إنه أفضل من هذه الزهور، لذا يجب أن أخذه معى». فالتفت مرةً أخرى وإذ وراء مهد هذا الطفل أمه التى تحنو عليه بحُبٍ صادقٍ يفيض من قلبها، فقال: «إن محبة الأم هى أفضل ما رأيتُ، لذلك يجب أن أخذها معى». وطار بهؤلاء الثلاثة، وقُبيل اقترابه من موطنه، قال: «يجب عليّ اختبار هذه التذكارات التى جلبتها معى من الأرض»، فنظر إلى الزهور وإذ بها قد ذُبلت، فتركها بعيداً! ونظر إلى ابتسامة الطفل، وإذ بها قد غابت! ولكنه نظر إلى محبة الأم، فكانت تُضيء فى بهاء مجدها الكامل. فضم هذه المحبة الثمينة إلى قلبه، ودخل بها عالم المجد قائلاً: «لن يبقى معك شيء تحتفظ بزهوه مما تأخذ من الأرض سوى محبة الأم». يا لروعة ما توحى به الأمومة الصادقة من حنانٍ وحبٍ وعطاءٍ يسمو بالمرأة فوق مستوى البشر! وكما يقول الشاعر العربى:
«الأمُّ مدرسة إذا أعددتها......أعددت شعباً طيب الأعراق».
إذاً لا توجد مدرسة كحضن الأم لتربية أبناء المستقبل ورجال الغد ولرفعة الأوطان. فالأم هى إشراقةٌ وسعادة على وجه أبنائها وهى ملاكٌ أقامه الله إلى جانب كل إنسانٍ، رِضاها هو رضى الله، وبركتها بركته، وما الأم إلا رحمة وصفح وحنان. هل فى الكون من إنسانٍ يحبّنا محبتها؟ هل فى العالمِ من شخصٍ يُضحّى تضحيتها؟ هل على هذه الأرض من كائنٍ يحنو علينا مثلها؟ وما حياة الأم إلا سلسلة متصلة ومتواصلة من تضحيات وبطولات، فلا النهار نهار ولا الليل ليل فى حسابها، لا تتبع التقويم اليومى أو أجندة المواعيد، كل همّها وشاغلها الأول والأخير هو سعادة وفرحة عائلتها، فالأم هى المخلوقة التى لا تعيش لذاتها، بل لأبنائها ثمرة أحشائها ولزوجها الذى ارتبطت به عن حبٍ وإخلاص، الأم هى ذلك القلب الطيب المُحِب، فإذا كان «الله محبّة» كما نعلم جميعاً، فالأم هى صورة الله فى عينى أبنائها، إذاً الأم هى دنيا الله الواسعة، هى الملكوت على الأرض. فالأمومة هى قبل كل شيء الاهتمام بنفوس الأبناء ورعايتها والسهر على تربيتهم وراحتهم، تعلّمهم مخافة الله والحياة حسب إرادته. إذاً كل امرأةٍ مخلصة ومُضحّية، هى بمثابة أمّاً لكل من تتعامل معه فى المجتمع أو تتقابل معه. ويقول بوذا فى المرأة: «إذا كانت المرأة كبيرة، فانظروا إليها نظرتكم إلى أمّهاتكم، أو كانت صبية فنظرتكم إلى أختكم، أو صغيرة فمثابة ابنة لكم». لذلك نطلب من الله أن يمنحنا البصيرة لنشاهد فى كل امرأة أبعد من الجمال الخارجى، وأن نكتشف دنيا الجمال فى عينى كل أمٍ وهى تحنو على طفلٍ صغير وتتضرع إلى الله. إذاً نطلب من الله أن يمنحنا العطاء والتضحية فى حياتنا كما تعيشها الأم، لأن العطاء نعمةٌ، وأن يكون كلُّ فردٍ منّا أداة عطاءٍ، إنما هو فضلٌ كبيرٌ تهبه السماء له، ومَنْ يُعطى فهو دليل على محبته، وعطاء المحبة يتميّز بالسخاءِ والبذلِ حتى الفداء. فالعطاء والفضيلة يمنحا الشخص جمالاً. ونختم بكلمات ڤولتير: «لا تسألونى عن رأيى فى المرأة، إنها أمى وأختى وزوجتى وابنتى قرّة عيني!» وكلمات الكتاب المقدس الرائعة: «أكرم أباك وأمك لكى تطول أيامك على الأرض».