عادل حمودة يكتب: اللعبة الإثيوبية واللعنة الإسرائيلية
إسرائيل تتوحم على مياه النيل وإثيوبيا مستعدة لبيعها إليها
بدأ الجيش الإثيوبى تسليحه وتدريبه على يد خبراء إسرائيليين بطلب من الإمبراطور هيلاسى لاسى عام 1956
الصادق المهدى قال لى: إسرائيل تريد شراء المياه من إثيوبيا لتنقل عبر السودان ومصر إلى النقب مقابل رسوم مرور مثل أنابيب النفط
أديس أبابا استفادت من خبرة تل أبيب فى إفساد مفاوضات سد النهضة
الموساد سيطر على حكام دول الحوض بحمايتهم من الاغتيال وعلاج عائلاتهم فى إسرائيل
تتوحم إسرائيل على مياه النيل.
تخطط منذ زمن بعيد للحصول على نصيب منها لتنقذ دولتها من الجفاف وشعبها من العطش ولتدعو المزيد من يهود العالم للهجرة إليها.
فى 22 مارس 1903 وصل تيودور هرتزل الأب الروحى للدولة العبرية إلى مصر وما أن التقى باللورد كرومر المندوب السامى البريطانى حتى عرض عليه ما وصف بـ«كنوز الأرض» مقابل منح اليهود مستعمرة فى سيناء تستفيد من مياه النيل الضائعة فى البحر بعد توصيلها إليهم فى سحارات تحت القناة.
لم ير المشروع النور ولكن الوحم الإسرائيلى لم يهدأ.
فى 3 إبريل 1980 بعث السادات برسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحم بيجن قال فيها: ولعلك تذكر أيضا إننى عرضت إمدادكم بمياه يمكن أن تصل إلى القدس مارة بالنقب حتى أسهل عليكم بناء أحياء جديدة للمستوطنين فى أرضكم.
اقتنص مناحم بيجن الإشارة ليؤكد أن المياه المقصودة مياه النيل عندما رد على السادات قائلا: أعتقد يا سيادة الرئيس أن حديثنا القصير فى العريش كان يتضمن اقتراحا منكم بنقل مياه النيل إلى النقب ولم تذكروا شيئا عن نقل المياه إلى القدس.
وأضاف: وأنا أرى يا سيادة الرئيس أن نقل المياه من النيل إلى النقب فكرة عظيمة.
قامت القيامة فى مصر ولم ير المشروع النور ولكن الوحم الإسرائيلى لم يهدأ.
فى 22 يوليو 2003 التقيت الصادق المهدى فى بيت الدكتور ميلاد حنا المطل على بحيرة مارينا القديمة وراح زعيم حزب الأمة السودانى يتحدث عن رغبة إسرائيل فى شراء المياه من منابع النيل فى إثيوبيا وأوغندا على أن تنقلها بطول النهر حتى تصل إلى مدينة الإسماعيلية لتجرى منها عبر السحارات الممدودة تحت القناة إلى سيناء لتصب فى ترعة السلام ومنها إلى صحراء النقب.
وكانت حجة إسرائيل: إن مجرى النهر فى السودان ومصر سيكون مجرد أنبوب ناقل مثل أنابيب النفط ستأخذ عليها الدولتان رسوم مرور دون أخذ لتر مياه واحد من حصتهما.
لم تبد مصر رغبة معلنة لقبول المشروع فلم ير النور ولكن الوحم الإسرائيلى لم يهدأ.
والمؤكد أن إسرائيل حصلت على موافقة إثيوبيا قبل عرض اقتراحها على مصر والسودان بل والمؤكد أن علاقة إسرائيل بإثيوبيا كانت متجاوزة الخطوط الخضراء والحمراء.
فى 6 يناير 1990 نشرت صحيفة اندبندنت البريطانية: إن خبراء إسرائيليين يعملون لحساب الحكومة الإثيوبية فى تجهيز دراسات تمهيدية جادة لبناء ثلاثة سدود بالقرب من بحيرة تانا.
وبعد 3 أيام ذكر تقرير للسفارة المصرية فى لندن: إن 400 خبير إسرائيلى فى الأمن والسدود وصلوا إثيوبيا لمساعدتها فى بناء ثلاثة سدود أخرى على النيل الأزرق.
وبعد أسبوع سلم مبارك شيمون بيريز ملفًا خاصًا أعدته الخارجية المصرية يحتوى المزيد من التفاصيل فى الملف ذاته.
وبعد ساعات قليلة وجهت مصر تحذيرا إلى إسرائيل وإثيوبيا للكف عما وصفته بالعبث قائلة: إن القاهرة لن تسمح بأى محاولة لإعاقة مجرى نهر النيل.
وحسب مذكرات وليم كيسى المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية فإن وجود إسرائيل فى منابع النيل حقيقة متزايدة لا يمكن تجاهلها للضغط على السودان ومصر حتى تستجيبان لما تطلب.
وفى الوقت نفسه أبرم جون جرانج (زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان) قبل وفاته فى تحطم طائرة اتفاقات مع شركات إسرائيلية تعمل فى إثيوبيا ومنطقة البحيرات العظمى لوضع دراسات جدوى شارك فيها 550 خبيرا إسرائيليا تتعلق باستغلال 25 مليار متر مكعب من المياه تصل إلى جنوب السودان وتمثل الرصيد الاستراتيجى للدولة إذا ما استقلت عن الدولة الأم.. وتضمنت الدراسات 12 مشروعا زراعيا و12 مشروعا لتوليد الكهرباء وتهدد باستقطاع 9 مليارات متر مكعب من المياه كانت مصر تخطط للاستفادة منها من قناة جونجلى التى توقف العمل فيها بسبب الحرب الأهلية.
وتستند إسرائيل فى علاقتها بإثيوبيا على جالية دينية توصف بيهود الفلاشا لم يهاجروا كلهم إليها فى عمليات التهريب التى دبرها الموساد بمساعدة المخابرات الأمريكية عبر السودان وحصل جعفر نميرى مقابل إغماض عينيه على عشرين مليون دولار.
وحسب ما عرفت فى زيارتى إلى أديس أبابا ومنابع النيل (يونيو 2008) فإن إسرائيل تتمع بنفوذ مؤثر فى الميديا والجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها من مؤسسات تقديم المشورة للحكومة الإثيوبية.
وأغلب الظن أن إسرائيل نقلت خبرتها التفاوضية إلى الجانب الإثيوبى فى الاختلافات حول سد النهضة.
إن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تمتد جذورها إلى مؤتمر السلام فى أوسلو (خريف عام 1993) لتسجل مدة قياسية تقترب من 27 سنة دون أن تصل إلى نتيجة حاسمة وخلال تلك المدة غير المسبوقة استخدمت إسرائيل أساليب مبتكرة للمماطلة وكسب الوقت لتغيير الأوضاع على الأرض والانسحاب المفاجئ قبل التوقيع على اتفاقيات نهائية ملزمة.
جعلت إسرائيل من المفاوضات هدفا فى حد ذاته لا يروى عطشا ولا يعيد أرضا ولا يحقق سلاما.
اللعبة نفسها لعبتها إثيوبيا فى مفاوضات سد النهضة.. لجان فنية تذهب وتأتى وهى تبنى السد.. لقاءات لا تتوقف بين وزراء الخارجية والرى وهى تواصل البناء.. انسحاب مفاجئ فى المفاوضات التى استغرقت شهورا برعاية أمريكية.. زادت خلالها سرعة بناء السد.
إسرائيل تكسب وقتا بالمفاوضات حتى لا تعيد الأرض وإثيوبيا تكسب وقتا بالمفاوضات حتى تنتهى من تشغيل السد لتضع الجميع أمام الأمر الواقع.
أكثر من ذلك تسربت أخبار عن حماية إسرائيل لسد النهضة بشبكة من صواريخ سبايدر أم أر التى تصنعها منذ عام 2008 بجانب دفاعات بانتسير إس الروسية وأن هناك تشكيكًا فى صحة تلك التسريبات.
والمعروف أن إسرائيل سلحت ودربت الجيش الإثيوبى عام 1956 بموافقة رئيس حكومتها ديفيد بن جوريون على طلب الإمبرطور هيلاسى لاسى وفى عام 1961 اعترفت إثيوبيا رسميا بإسرائيل وتبادلت معها البعثات الدبلوماسية وافتتحت قنصلية لها فى القدس.
والمؤكد أن إسرائيل خلقت علاقات قوية بحكام دول منابع النيل (وعلى رأسها إثيوبيا وأوغندا وكينيا) بطريقة سلسة غير مكلفة.. حمايتهم أمنيا بضباط من الموساد.. وعلاج عائلاتهم فى مراكزها الطبية.
وتلك العلاقة جرأت هؤلاء الحكام على مصر.
قبل زيارة رئيس وزراء كينيا مواى كيباكى للقاهرة فى منتصف مايو 2010 ضغطت عليه إسرائيل لتوقيع اتفاقية تعطيش مصر التى تعيد توزيع حصص مياه النهر قبل أن يأتى إلينا وحرضته علينا بطلب الغاز المصرى لبلاده قائلا: مادمتم تعطونه لإسرائيل عدوتكم فلم لا ترسلونه إلينا ونحن أصدقاؤكم؟.
وتكسب إسرائيل عواطف شعوبهم ببناء ملاعب رياضة كرة القدم التى تستهويهم إلى حد الجنون.
ولن تصدق لو عرفت أن ميزانية إسرائيل لمساعدة دول العالم النامى ظلت لسنوات طوال لا تزيد على 10 ملايين دولار ولكنها تستغلها فى كسب الحكام بالحماية وكسب الشعوب بملاعب الكرة.
وفى الوقت نفسه تدعم مصر فى صمت ما يفيد شعوب النهر ويسهل لهم الحياة.
طهر خبراء الرى المصريون مجارى أنهار فرعية تصب فى بحيرة فيكتوريا من الأعشاب بميزانية تصل إلى 15 مليون دولار وفعلت الشىء نفسه فى أنهار أخرى ودفعت 25 مليون دولار وكان ذلك فى الفترة ما بين عامى 2003 و2008.
وحفرت مصر فى كينيا 140 بئرا على عمق 300 متر تضخ الواحدة منها عشرات الأمتار المكعبة من المياه يوميا لسد حاجة الناس فى مناطق جفاف لا تصل إليها مياه النهر وحفرت فى تنزانيا 120 بئرا للسبب ذاته.
وليس لإسرائيل سوى 3 سفارات فى دول حوض النيل مقابل 7 سفارات لمصر ولكن إسرائيل تعمل فى الخفاء ما تجنيه فى العلن ولو بعد حين.
إن اللعبة الإثيوبية مستوحاة ومملاة من الخبرة الإسرائيلية التى بدت لها مقنعة بالرغم من خسارة شراكة التنمية المستدامة التى عرضتها عليها مصر وتجاوزت بها قضية سد النهضة.
ولن تكتشف أديس أبابا ما تحلم به تل أبيب إلا بعد أن تصل إليها مياه النيل وتصبح دولة فى حوضه وتكف عن الوحم المزمن الذى عانت منه طويلا.