عَزَمَ حربي عمار، على نَصَّب عَربته المتنقلة لبيع الفواكه، كعادته اليومية في الصباح الباكر، دون أن يكترث لتحذير هيئة الأرصاد الجوية، من موجة الطقس السيئ، مُتلفِّعًا بعمامته، متحديًا غزارة المطر، الذي رَسَخَ في الأرض، ووقَف شاخِصًا، أمام سِلعته، منتظرًا زبائنه، قصَف الرعد، وبدأت الحركة تقل في الشارع، وظَل هو مكانِه "مينفعش أخد إجازة أنا مش موظف..عايش على اليومية..ولو حتى ربع الرزق راضي به".
تداخلت قطرات المطر المتساقطة على أسبَاط الموز برتابة مع تنظيم صاحب الـ(45 ربيعًا)، للثمرة الذي يشتريها قبل نضجها؛ لانخفاض سعرها "بنزل سوق العبور اشتري الموز وهو لسه أخضر واسيبه يومين يصفر.. علشان نطلع لزبون صباع نظيف يستاهله"، يقاطعة أحد زبائنه- الذي اعتاد على شراء الفواكه منه-، مطالبًا 2 كيلو "ليا زبون صعب منتظروش هيروح لغيري"، اِنشرح صدره، وانهمكَ في عمله "صعب الناس متاكلش.. الحياة كده.. وسعري أرخص من غيري".
تَجاسر بائع الفواكه، على عدد ساعات عمل أكثر من طاقته، خاصة مع سوء حالة الطقس التي تعرضت لها البلاد- ولم تحدث منذ عام 1999- الأمس والمتوقع أن تنتهي السبت، لأنه يقتات منه لإعالة أسرته المكونة من ست أفراد، تمدّد قائمًا لينظر إلى زبون بعيدًا عنه "عندي خمس بنات.. أكبرهم في دبلوم تجارة.. ونفسي أعلمهم كلهم وأجوزهم وأطمن عليهم"، اِقْتضب حديثه، مواصلاً عمله في تنظيف العربة من مياه الأمطار، محاولاً جَرَف المياه من أمام العربة، لكي لا يتردد الوافدين عليه من الشراء منه. تصدح مِئذنة المسجد المجاوِرة لمشروع الرجل الأربعيني، بالتواشيح الدينية، إيذانًا بقرب رفع أذان صلاة الجمعة "من الساعة 10 وأنا واقف مكاني ما بعتش بضاعة إمبارح لسه غير كام كيلو"، مصرًا على الوقوف حتى منتصف الليل "إمبارح مروح الساعة واحدة"، آملاً برزق أكثر من الأمس "نجيب حتى طبخة للبنات".
خمسة وعشرون عامًا، مروا على ابن أحد القرى بمحافظة سوهاج، في قاهرة المعز، بعدما استقر بأحد الأحياء في منطقة فيصل، عقب خروجه للبحث عن فرصة عمل أفضل من الزراعة في قريته، استهله في بيع الخردوات لكنه لم يفلح، حتى طرأت عليه فكرة مشروعه الصغير منذ عشرة أعوام "الدنيا ياما رفعتني يوم فوق ويوم تحت.. ماجتش على المطر" الذي بدأ انْصِبابه يتراجع، مع صوت زبون آخر "السحب قليل لأن الناس عندها علم بقالها يومين بوضع الجو.. وكتير منهم اشتري علشان ما ينزلش في الميه.. بس أهي ساعة الظهرية بتراضي".
لم يشتطّ عمار، في تسعير بضاعته "عاوز أخلص من الموز هيسود لو فضل أكتر من كده.. وصباع الموز مبيجيش بالساهل"، حيلة الرجل، الذي أصاب بنزلة برد شديدة وضَجَّ من التعب، لكنه يَأبَى عليه، ألقى عليه التحية صديقه، بلهجته الصعيدية المُحببة إلى قلبه "أبو عمو حضرلي 3 كيلو موز و3 برتقال .. وكمان 2 كيلو لمحمود أخوية على ما أطلع اللي في إيدي"، ابتهج وحسُنت حالته، مسرعًا في تجهيز طلبه "أهي فرجت" مُمازِحه "بس حاسب عليهم ومضفوش على الحساب"، ليؤكد له ابن قريته أن العمارة الذي يعمل بها بحاجة لشراء الكثير من الموز "الحمدلله كده بعته كله.. وربنا طبطب علينا بالناس الطيبة دي".