محمد مسعود يكتب: مبارك.. أيام الحظ والنصر.. والرحيل
تدرج وظيفيا لأنه رجل ثان يجيد تنفيذ الأوامر بدقة متناهية.. لكن مصر ظلت تبحث عن رئيس طوال سنوات حكمه
لعبة القدر والحظ أوصلته إلى الرئاسة.. والفصل الأخير فى حياته تحول من حاكم لمتهم ومن رئيس إلى شخص
تنازل عن الحكم لكنه لم يتنازل عن البقاء على أرض مصر رافضا مبدأ الهرب وفكرة النجاة بالجسد
آن لمبارك أن يستريح، أن يرقد رقدته الأخيرة هادئا مطمئنا، بعد حصول نجليه علاء وجمال على حكم يقضى ببراءتهما فى قضية التلاعب بالبورصة، فربما كان أكثر ما يوجعه، ويؤرقه، ويثير أحزانه، سمعة ابنيه.
كتب القدر أن يكون الفصل الأخير فى حياة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، هو الفصل الحزين، الذى بدأ بوفاة الحفيد، ومذلة المرض، وذهاب السلطة، والتحول من رجل يحكم.. لمتهم يحاكم.. ومن رئيس يملك مقاليد كل شيء.. لشخص لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
عاش مبارك فى الفصل الأخير من عمره، جميع المتناقضات، فمن أرادوا رحيله، ودعوا الله أن ينتقم منه، هم أنفسهم من ودوا أن يعتذروا له، بعد ما عانته مصر من الإرهابى محمد مرسى الذى ولد من رحم جماعة انتهجت مبدأ إما أن نحكمكم أو نقتلكم، بينما اقتنع الجميع أن مبارك ولد من رحم المسئولية والرجولة.
وبعد أن أتم مبارك عامه الثانى والتسعين، أسدل الستار على حياته الطويلة المليئة بالأحداث، والمفاجآت، والحظ السعيد الذى لازمه لفترة طويلة فى حياته، إلى أن تخلى عنه تماما، ونهائيا، مع اشتعال ثورة الخامس والعشرين من يناير، التى تنازل على أثرها عن مقاليد الحكم.
تنازل مبارك عن الحكم، لكنه لم يتنازل عن قرار البقاء على أرض مصر، رافضا مبدأ الهرب، وفكرة النجاة بالجسد، وأصر أن يُحاكم كمواطن عادى، بدلا من أن يعيش كرئيس متنازل عن حكمه، خارج حدود وطنه الذ عاش فيه ودافع عنه.. وهو ما يحسب قطعا لمبارك الذى عاش مقاتلا حتى ساعاته الأخيرة، وإن اختلف العدو فى كل جولة.
لم يكن أكثر المتفائلين من أسرة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك يتوقع أن يصبح ما أصبح عليه، وأن تتحول الطائرات الورقية، التى كان يصنعها الطفل الصغير بيديه ويلعب بها على أرض الواقع فى شوارع كفر مصيلحة، إلى طائرات حقيقية، يصول بها ويجول فى سماء الحقيقة.
والحقيقة أن الحظ لعب دورا مهمًا وكبيرا، فى حياة مبارك، فرغم كونه أبنا لأسرة فقيرة، تضم أربعة أشقاء وشقيقة واحدة، لأب بسيط يعمل حاجبا فى محكمة وأم فلاحة مصرية عظيمة من كفر مصيلحة بمحافظة المنوفية، لكنه نجح فى الالتحاق بالكلية الحربية، فور تخرجه فى مدرسة المساعى المشكورة الثانوية بشبين الكوم، وحصل مبارك على بكالوريوس العلوم العسكرية فى فبراير 1949 وتخرج برتبة ملازم ثان والتحق ضابطا فى سلاح المشاة، باللواء الثانى الميكانيكى لمدة ثلاثة أشهر.
وهنا ابتسم الحظ السعيد، بإعلان الكلية الجوية عن قبول دفعة جديدة بها من خريجى الكلية الحربية، وعلى الفور تقدم مبارك للالتحاق بالكلية واجتاز الاختبارات مع أحد عشر ضابطًا من خريجى الكلية الحربية قبلتهم جميعًا كلية الطيران.. وتخرج حسنى مبارك فى الكلية الجوية وقد حصل على بكالوريوس علوم الطيران فى 12 مارس 1950.. قبل أن يتدرج فى الوظائف العسكرية فور تخرجه.
وتعتبر خمسينيات القرن الماضى من سنوات الحظ فى حياة مبارك، ففى هذه الأثناء كان مدرسا بالكلية الجوية، وكان من بين تلاميذه اثنان، ارتبط مصيره بهما إلى نهاية أجله، الأول عاطف السادات، شقيق الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، الذى كان طالبا يتلقى دروسه من حسنى مبارك، وكان عاطف دائم الحديث عن جديته، وربما قسوته فى تنفيذ الأوامر أمام السادات، وفى إحدى المرات زار السادات – الذى كان وقتها مقربا جدا من الرئيس جمال عبد الناصر - الكلية الجوية وشاهد مبارك أثناء التدريس، فما كان منه إلا أن دوّن اسمه فى نوتة صغيرة وكتب أمامه إحدى الملاحظات.
أما الثانى فهو منير ثابت الذى كان طالبا أيضا يتلقى دروسه من مبارك، وكان سببا مباشرا فى أن يتعرف مبارك على زوجته السيدة سوزان ثابت، بعد لقاء جمع الثلاثة فى نادى هليوبوليس فى مصر الجديدة، تعارف خلالها مبارك على سوزان، قبل أن يعلن جديته فى الارتباط بها، وبعد فترة قصيرة وبالتحديد فى عام 1957 تمت الخطبة رسميا بين الطيار ذى الأصول الريفية محمد حسنى مبارك، وسوزان ثابت ابنة العائلة المرموقة.
2- القفز إلى القمة
واستمر الحظ داعما لمبارك الذى عمل مدرسًا بكلية الطيران.. ثم مساعدًا لأركان حرب الكلية، علاوة على كونه قائد سرب حتى عام 1959.. وفى عام 1964 تلقى دراسات عليا بأكاديمية «فرونز العسكرية» بالاتحاد السوفيتى.. ليبتسم له الحظ مرة أخرى، ويتم ترقيته عقب نكسة الخامس من يونيو 1967 بعد تغيير القادة ليصبح مديرا للكلية الجوية، وشغل بعد ذلك منصب قائد القوات الجوية فى أبريل 1972 وفى العام نفسه عين نائبًا لوزير الحربية، ليقود القوات الجوية المصرية أثناء حرب أكتوبر 1973 ثم رقى إلى رتبة فريق أول طيار فبراير 1974.
وفى 15 أبريل 1975 اختاره الزعيم أنور السادات نائبًا لرئيس الجمهورية ليشغل هذا المنصب من 1975 إلى أن ساقه القدر والحظ إلى منصب رئيس جمهورية مصر العربية والذى استمر ثلاثين عامًا عقب اغتيال الرئيس السادات.
3- الرجل الثانى
كان النجاح الإدارى الكبير والثقة التى استمدها حسنى مبارك من جميع رؤسائه وقادته ترجع لكونه يملك شخصية جيدة، تجيد الانصياع للأوامر وتنفيذها بمنتهى الدقة، لذا كان يعد أنجح من ينطبق عليهم وصف الرجل الثانى، وما إن أصبح رجلا أول، كان من الملاحظ عليه التردد الكبير فى القرارات والبطء فى تنفيذها، لذا ظلت مصر طوال 30 سنة هى مدة حكمه تبحث عن رئيس، عن رجل أول يقدم على حل المشكلات ويتخذ القرارات، بدلا من تجميدها لأطول فترة ممكنة. وما يؤكد على حقيقة أن مبارك أدار مصر بعقلية الرجل الثانى، أنه لم يجد أبدا شخصًا يستطيع أن يطلق عليه «الرجل الثانى» ليجعله نائبا له، وهو كان صريحا فى حقيقة إجاباته عن عدم تعيين نائبا له «مش لاقى حد ينفع يبقى نائب».
4- النذير
المقربون من الرئيس الأسبق حسنى مبارك أكدوا أن الشخص الذى ملك قلبه فعليا هو حفيده «محمد» الذى توفى منذ 11 عاما، وكان لوفاته أكبر أثر على حياة مبارك الذى قيل وقتها إنه زهد كل شىء ولم يخرجه من عزلته سوى لقاء الرئيس الأمريكى باراك أوباما، وهو لقاء حضره مبارك متضررا.
المقربون من الرئيس الأسبق قالوا وقتها إن مبارك فكر فعليا فى ترك السلطة، وأن يعيش حياة هادئة مع أحزانه بعد رحيل أقرب المقربين إليه، وهو الأمر الذى اعتبره البعض نذيرا لأيام شؤم سيشهدها مبارك فى الفصل الأخير من حياته الذى تخلى فيه الحظ عنه تماما ونهائيا.. لكن بقى السؤال: كيف يعتزل مبارك؟.. ولمن يترك السلطة فى مصر؟.. هل كان جمال مهيئا وقتها لتنفيذ سيناريو التوريث ؟.. قطعا لو كان مهيئا لتم تنفيذه.
5- أقوال لا تنسى
لمبارك ما له وعليه ما عليه، هو فى النهاية إنسان وضعه القدر فى اختبارات صعبة، وسواء كان مخطئا أو مصيبا.. فسيحكم التاريخ بما له وما عليه.. كما قال نصا فى خطابه الأخير «إن هذا الوطن العزيز هو وطنى، مثلما هو وطن كل مصرى ومصرية، فيه عشت، وحاربت من أجله، وادفعت عن أرضه وسيادته، ومصالحه، وعلى أرضه أموت، وسيحكم التاريخ علىّ وعلى غيرى بما لنا أو علينا، إن الوطن باق والأشخاص زائلون ومصر العريقة هى الخالدة أبدا تنتقل رايتها وأمانتها بين سواعد أبنائها».