د.رشا سمير تكتب: "دار الشروق" تكتب ثورة ١٩١٩ من جديد
مائة عام على اندلاع شرارة الثورة الشعبية المصرية العظيمة عام (1919)..ترحل الثورات ويرحل الثوار ويبقى فقط فى ذاكرة التاريخ المعنى الحقيقى لانتفاضات الشعوب..وقيمة أن تتحول إبادة اليأس والتغلب على الهزيمة إلى عنوان الشعوب التى انتفضت لتبحث عن حريتها وتفرض إرادتها على أوضاعها المتردية..
بات تاريخ مصر عبر العصور حالة لا تنتهى من الكر والفر لشعب يبحث عن استقلاله فى ظل استعمار وتعديات من دول طامعة.
الحقيقة أن ثورة 1919 تعد من أهم ثورات مصر وخصوصا أنها جاءت فى أعتاب الثورة العرابية التى لم تعد يوما فى تاريخ الثورات عملا مثاليا، لكنها مثلت فى زمانها وقفة حقيقية ضد التمييز ضد المصريين.
1- سلسلة الثورة
أصدرت دار الشروق سلسلة إصدارات بمناسبة مئوية ثورة ١٩١٩، لتوثيق أحداث لا تعرفها أجيال ووقائع ربما عرفناها من كتب الدراسة ولكنها توارت طويلا بين أزقة التاريخ البعيد فى انتظار أن تمتد إليها يد أحد المهتمين بالتاريخ ليصنع منها شهادة على العصر..ربما جاءت ورحلت أجيال لا تعرف عن ثورة 1919 سوى تلك الجملة الخالدة (يحيا الهلال مع الصليب)!.
هنا يجب أن أشير إلى أهمية العمل الذى قامت به دار الشروق، بنشر سلسلة كاملة من أحد عشر كتابا تؤرخ لجوانب متعددة من تاريخ الثورة، منها الجانب الإنسانى والسياسى ووثائق تنشر لأول مرة من مراسلات ومذكرات المنفى، بجانب إعادة نشر المذكرات لبعض الشخصيات التى عاصرت تلك الثورة فى ملف مهم يسلط الضوء عليها.. كما لا يفوتنى أن أشيد أنه فى ظل ارتفاع أسعار الورق والطباعة أخرجت دار الشروق تلك الأعمال بشكل لائق وبسعر معقول جدا مما أعتبره مساهمة حقيقية فى وصول السلسلة إلى يد كل الفئات. يُعد كتاب «يوميات لورد ملنر ووثائق أخرى 1919ــ1920» باكورة أعمال السلسلة، وهو من تقديم المستشار طارق البشرى وإعداد الباحثة منى عبدالعظيم أنيس، من أهم أعمال هذه المجموعة.
2- سعد فى حياته الخاصة
كتب كريم ثابت فى كتابه (سعد فى حياته الخاصة) عن مواقف شخصية للزعيم الراحل، وألقى الضوء على جوانب مهمة من شخصيته التى لم يعرفها أحد.
يقول صاحب المعالى فتح الله بركات باشا وزير الداخلية والذى نُفى مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشل، إن أشجع مواقف سعد باشا هو الموقف الذى وقفه عند مغادرته لميناء عدن إلى جزائر سيشل، حيث إنه تقرر نقله أولا بمفرده إلى البارجة التى أقلته إلى سيشل، فلما أزف موعد الرحيل، رافقوه إلى الميناء وهم يبكون كالأطفال، أما هو فكان رابط الجأش ساكن الجنان ثابت الخُطى جهورى الصوت لم يذرف دمعة واحدة.
كان الأستاذ مكرم عبيد قد دون مذكرات وافية عن حياة سعد وأصحابه فى المنفى فى ميناء عدن أولا ثم جزر سيشل النائية، ولكن السلطات البريطانية عثرت على هذه المذكرات التاريخية عند تفتيشها لداره فأخذتها ولم ترجعها، ففقدت الأمة بمصادرتها صفحة مجيدة من تاريخ مصر.
كان سعد باشا فى سيشل يأتنس بوجود النحاس باشا، وفتح الله بركات وعاطف بركات باشا وسينوت حنا بك، فكانوا يتناولون طعام الغداء والعشاء على مائدته، ولما استقر قرار ولاة الأمور البريطانيين على نقل الرئيس الجليل من سيشل إلى جبل طارق، أخذ معه صورتهم الفوتوغرافية، وتروى أم المصريين أنها لما لحقت به هناك كانت تراه كل يوم يضم تلك الصورة إلى قلبه وهو يقول: «هؤلاء هم أولادى فليحرسهم الله بعنايته».
3- مذكرات المنفى
كتب مصطفى النحاس فيما أسماه مذكرات المنفى، والتى جمعها وقام بتقديمها فى أحد كتب تلك السلسلة، الأستاذ المحترم عماد أبو غازى، ذاكرا فى تقديم الكتاب مكانة النحاس باشا، ومحاولاته الدقيقة فى عدم المساس بمحتوى ما كتبه النحاس باعتباره واحدا من أبرز القادة التاريخيين لحركات الاستقلال الوطنى على الرغم من أنه لم يلق الاحتفاء الذى يساوى ما قدمه لمصر من تضحيات.
كتب النحاس يقول، إنه فى 23 ديسمبر عام 1921 وجه واصف غالى وويصا واصف العضوان فى الوفد نداء للأمة بعد نفى سعد باشا، اختتموه بقولهم: « نفوا سعدا، لكن مبادئ سعد باقية..نفوا سعدا، ولكن روحه تلهمنا وتؤيدنا وتقودنا..نفوا سعدا، ولكن مصر باقية..إننا مصممون على أن نواصل العمل، وأن نثابر فيه حتى نصل غايتنا منه بعون الله، ولئن ضربنا الخصم نحن أيضا فليقومن غيرنا وغيرنا، لأننا لا ندع علم مطالبنا الوطنية يسقط من أيدينا».
4- أمريكا وثورة 1919
هذا الكتاب قدمه الدكتور محمد أبو الغار مشيرا فيه إلى خطورة الدور الأمريكى فى ثورة 1919 بعد انحسار الدور البريطانى فى هيئته الاستعمارية، وهو كما يتبين من صفحات الكتاب نفس الدور الذى تقوم به أمريكا اليوم، إذن فالسياسة الأمريكية واحدة، لا تحتمل التزييف ولا التعديل، إنها سياسة المصالح المُطلقة مهما كان الخصم.
إن استقلال مصر فى حقبة لاحقة كان حقيقة واقعة، والسيطرة العثمانية كانت شيئا اسميا، فلم يكن للأستانة سلطة حقيقية على مصر، الشىء الوحيد الذى كان يحد من استقلال مصر الكامل هو وجود امتيازات أجنبية أعطت الأجانب الذين يعيشون فى مصر حقوقا مدنية وضريبية وقانونية كبيرة، تفوق بمراحل حقوق المصريين، وبالطبع كانت تلك تفرقة ظالمة ضد أبناء الشعب.
نشرت الصحف الأمريكية القومية الكُبرى، وكذلك الصحف المحلية، عدة موضوعات باهتمام عن أخبار مصر فى أثناء وبعد الثورة، وهو الدليل القاطع على اهتمام الشعب الأمريكى بهذا الأمر.
يقول المؤرخ الأمريكى بيتر جران إن ثورة 1919 كانت ثورة ضخمة ومهمة فى التاريخ الحديث، وإنها قد هزت من الأعماق الإمبراطورية البريطانية وأثرت عل العلاقات الأوروبية الأمريكية، ويؤكد أن مصر بلد ينطبق عليه معايير البلاد الشرقية التى لا يمكن أن يثور فيها الفلاحون أو حتى سكان المدن، ولا يمكنهم الاشتراك فى عمل سياسى جماعى يشكل تغييرا فى مجرى التاريخ، ولهذا فإن الأحداث التى وقعت فى مصر فى عامى 1882 و 1919 يتعامل معها المؤرخون على أنها سلسلة من الانقلابات.. كما كتب أيضا المؤرخ الأمريكى إيلجود أن ثورة 1919 هى فوضى لا ضرورة لها، أدت إلى ضباب غامض!.
لكن وعلى الرغم من كل شىء، استطاعت مصر تحقيق قفزة دبلوماسية وطنية بين عامى 1924 و1930، واستطاعت الضغط على القوى الأجنبية، ونظمت المفاوضات المفيدة لمصر، كما استطاعت فرض تعريفة جمركية تعاقب الدول التى لا تتعاون معها، ووافقت أمريكا وبريطانيا على هذه القواعد، وعندما طلبت أمريكا وضعا ضريبيا مميزا، رفضت مصر إلا إذا كان التعامل بالمثل.
هذا التفاهم والتفاوض والخلاف بين مصر والولايات المتحدة، قد تم بلعبة ذكاء من الحكومات المصرية، وأدى إلى تحسن وضع مصر الدولى، وحقيقة فقد بدأ النفوذ الإنجليزى فى مصر ينخفض مع تصاعد النفوذ الأمريكى.
5- ثورة يقودها زعيم
إن زعامة سعد زغلول هى تلك التى التقى حولها المصريون فعلموا أنهم أمة واحدة، مسيحيون ومسلمون لكنهم أمة، شيب وشبان لكنهم أمة، رجال ونساء لكنهم أمة..فانبعثت للأمة حياة ماثلة إلى جانب حياة كل فرد وكل طبقة وكل طائفة وكل جنس وكل دين..
روى موظف مصرى أنه التقى بالمهاتما غاندى فى لندن، فجرى بينهما حديث عن القضية المصرية، يومها قال المهاتما عن سعد زغلول:
«إننى تابعت سيرة هذا الرجل القدير، ولا يزال له فى نفسى أثر عظيم، أعده قدوة وأراه بمثابة أستاذ، الحركة الهندية سارت فى أعقاب الحركة المصرية، إنى اقتديت بسعد فى إعداد طبقة من العاملين فى القضية الهندية، فلا تعتقل طبقة منهم إلا لحق بها خلفاؤها على الأثر..وعن سعد أخذت توحيد العنصريين، لكنى لم أنجح بعد كما نجح هو فيه، إن سعد ليس لكم وحدكم ولكنه لنا أجمعين». تلك الكلمات قدمت وصفا شافيا لرجل جمع الأمة المصرية تحت زعامته، رجل تحمل الظلم والنفى والمرض لكى يصل بوطن أمن به إلى بر أمان..
فى الذكرى المائة لثورة 1919، نعود فنتذكر ونقرأ عن أيام لم نعشها وثورة لم تنل حقها فى التاريخ، أو ربما لأن الكثير من حقائقها لم تتكشف فى وقتها.
فى ذكرى ثورة 1919 ننحنى لزعيم الأمة سعد زغلول ورجال أجلاء التفوا حوله ليصنعوا تاريخا من الحرية دون أطماع ولا انتهازية.. فتحية لرجال عشقوا مصر وقدموا أرواحهم فداء لها.