د. نصار عبدالله يكتب: عن الأمية الرقمية
إذا كنا نسعى حقا إلى أن تلحق مصر بركب الحداثة، فإن من أول لوازم تحقيق هذا المطلب هو محو الأمية الرقمية، وأعنى بالأميين الرقميين أولئك الذين يقتصر إلمامهم بالكتابة على الصيغة الورقية فقط وما فى حكمها، أى أنهم قادرون على الكتابة باستخدام الأقلام حتى وإن كانوا قادرين على قراءة ما هو مكتوب بأية وسيلة أخرى من الوسائل (أنوار النيون مثلا)..هؤلاء الذين يقدرون على القراءة، لكنهم يعجزون عن الكتابة إلا بالوسائل التقليدية (الأقلام وما فى حكمها)، وبعبارة أخرى أكثر تحديدا فهم لا يستطيعون الكتابة على الحاسوب وما فى حكمه (أجهزة الموبايل مثلا)، وبالتالى فهم عاجزون بالتالى بالضرورة عن استخدام تقنيات الإنترنت فى البحث عن أية معلومة من المعلومات..أعود إلى القول إذا كنا نسعى حقا إلى أن تلحق مصر بركب الحداثة فإن من الضرورة بمكان محو أمية هذه الفئة من المواطنين، خاصة أولئك الذين تستلزم طبيعة مهنهم مواكبة أحدث التطورات فى مجال مهنهم، ولحسن الحظ فإن العاملين فى بعض تلك المهن تكاد الأمية الرقمية أن تكون منعدمة تماما بينهم بالفعل كالأطباء والمهندسين (فى حدود من أعرفهم على الأقل)، لكن هذه الأمية (فى حدود من أعرفهم أيضا على الأقل) عالية جدا فى مهن أخرى رغم أن تلك المهن تستلزم الاطلاع والبحث المستمر فى مصادر غير متاح فى مصر فى الصيغة الورقية أو لعلها لم تجد سبيلها بعد إلى النشر فى تلك الصيغة. ومن بين تلك المهن التى ترتفع فيها ظاهرة الأمية الرقمية مهنة المحاماة (أكرر مرة أخرى أنى أتكلم فى حدود من قدر لى أن أتعامل معهم، وإن كنت أتمنى أن يقوم الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء بإجراء مسح شامل لهذه الظاهرة فى المهن المختلفة)، وفى تقديرى أن مثل هذا المسح الشامل لو تم القيام به فإن هذا سوف يكون هو المقدمة العلمية والعملية فى الوقت ذاته لمواجهة هذه السلبية والتصدى لها بكل السبل تمهيدا للقضاء عليها، وفى هذا الخصوص فإننا يجب أن نضع فى الحسبان أن مثل هذا التصدى لن يكون سهلا على الإطلاق بل إنه سوف يواجه بمقاومة ضارية من أولئك الذين استكانوا إلى أوضاعهم الحالية ممن سوف يرون فيه عبئا جديدا غير منطقى وغير لائق و سوف يردد لسان حالهم المثل العامى الذى يقول: «بعد ما شاب ودوه الكتّاب» غافلين عن أننا فى عصر لن يشفع فيه لوصمة الأمية والجهل شيب أو مشيب، أو ربما يتذرعون بأنهم بعد أن بلغوا ما بلغوه من المكانة فإن أعمالهم ومشاغلهم قد اتسعت إلى الحد الذى لا يسمح لهم بمزيد من التعليم، وهو عذر أقبح من ذنب فهم يغفلون عن أن مثل هذا النوع من التعلم هو الوسيلة الوحيدة لمواكبة أحدث ما استجد فى مجال مهنهم، وهو بالتالى وسيلة فعالة لاستمرار ما بلغوه من المكانة التى سيفقدون جزءا منها بالضرورة لو أنهم ظلوا على ما هم عليه..وعلى أية حال فإن مثل هذه المقاومة المتوقعة توجب فى تقديرى ألا يترك الأمر اختياريا لكل من يرغب فى محو أميته الرقمية بل ينبغى أن يكون إجباريا ولو بشكل متدرج ينتهى بعد أمد طال أوقصر إلى اختفاء هذه الظاهرة خاصة فى المهن التى لا تحتمل طبيعتها وجود أميين رقميين بين أبنائها، وأول وسائل الإجبار يقع على عاتق النقابة التى ينتمون إليها حيث تنص سائر قوانين النقابات تقريبا على أنه من بين مهام النقابة (بالإضافة إلى رعاية شئونهم والدفاع عن مصالحهم) الارتقاء بمستواهم المهنى، وإذا جاز لى أن أقترح فإننى أرى أنه لا يجوز القيد ابتداء للأميين الرقميين فى أية نقابة مهنية معينة، وأما بالنسبة للمقيدين فعلا والذين أصبحت عضويتهم حقا مكتسبا، فإنه لا يجوز الانتقال من مستوى معين إلى مستوى أعلى إلا بعد التأكد من أن العضو قد تجاوز مرحلة الأمية الرقمية (فى نقابة المحامين مثلا لا ينتقل المحامى المقيد للمرافعة فى المحاكم الابتدائية إلى محام مقيد بالاستئناف إلا بعد استيفائه الشرط سابق الذكر، ونفس الأمر بالنسبة لمحامى الاستئناف عند قيده بالنقض).. أما إذا تقاعست النقابات عن القيام بهذا الأمر سواء لاعتبارات تتعلق بالمزايدات الانتخابية أو لغير ذلك من الاعتبارات، فهنا ينبغى على السلطة التشريعية أن تتدخل وتجبرها على ذلك إجبارا لأن الأمر هنا يتعلق بالمصلحة العامة وليس المصلحة المهنية وحدها.