الجميع التف حول حب حفيد الرسول.. "سُكان المشهد الحسيني" الأكثر حظًا
"خُدام آل البيت"، قليلون هم من حالفهم الحظ وكانوا من مواليد أو سُكان حي الحسين؛ فيغمرك شئُ من السكينة والطمأنينة عندما تدب خطواتك ناحيته، وكأنك كنت تائهًا وعدت إلى أحضان مكان اعتادت فيه روحك على الأمان.
سُكان المشهد الحسيني، يهيمون عشقًا في خدمة آل البيت، خاصة في يوم عيدهم، يوم
"مولد الحسين"، فتتزين النساء، ويفرح الأطفال، يرتدون الجديد من الملابس،
ويقومون بتحضير الوفير من الطعام، ليس انتظارًا لشئ سوى خدمة رواد البيت، فاعتادوا
على ذلك أبًا عن جد.
يعيش أهل الحُسين أيام عيد، قبيل المولد، الذي يحتفل فيه آلاف
المصريين باستقرار رأس الحسين الشريف في مصر، فكان ومازال أكثر الموالد ازدحامًا،
لا تختلف طقوسه بمرور السنين، تترامى شوارد خدمة الرواد في الشوارع يمينًا
ويسارًا، تنضب بما آتاها الله من رزق كثير.
اعتاد أهل المكان على بدء التحضير لمولد الحسين قبل مجيئه بنحور شهر كامل، فيقوم
كلٌ منهم بإعداد مخزون الطعام الذي سيقوم بتوزيعه على الزائرين، الذين يأتون من كل
حدب وصوب، أو تجهيز محالهم لحركة البيع والشراء، ولتوفير كل سُبل الراحة للزوار.
منى هريدي "خالتي فرنسا
الحقيقية": أشعر أن أولياء الله في كل مكان
ثلاث درجات سُلم فقط،
تقودك لأحد أقدم وأشهر محال الفول والطعمية في منطقة الحسين، مكان صغير لا يتسع
سوى لبعض أفراد، ولكن يأتي إليه الكثير من زوار المكان، قاصدين "خالتي فرنسا"
الحقيقية، وهي منى هريدي، التي عُرفت بالشخصية الحقيقية لفيلم "خالتي
فرنسا"، الذي جسدته الفنانة عبلة كامل.
على عتبات هذا المكان وتحديدًا تحت ورقة كُتب عليها "هذا من فضل ر بي"، تجلس
سيدة بشوشة الوجه، بسيطة الملامح، ودودة الطباع، ترحب بكل من مر أمام مطعمها
البسيط، الذي مر على عمره أكثر من 50 عام، وعلقت عليه لافتة كُتب عليها "خالتي
فرنسا".
"بالنسبة لنا هو عيد، لمولد الحسين داخلنا طعم مختلف، نستعد له قبل مجيئه
بنحو شهر كامل، حتى الأطفال، وفي الليلة الكبيرة، تظل كل شوارع المكان في يقظة حتى
الصباح، ابتهالات وذكر في كل مكان، وفرحة في كل بيت"، بهذه الكلمات وصفت خالتي
فرنسا لحظات الفرح بقدوم المولد.
وعن إحساسها، قالت:
"يمثل المولد الحسيني لنا كل شئ، سيدنا الحسين جده النبي عليه الصلاة
والسلام، يجب أن يكون له احتفال مختلف ومميز، فنقوم بتحضير الأرز بلبن الذي نوزعه
على الزائرين، واللحوم والوجبات المختلفة، كل شخص على حسب إمكانياته، أشعر أن
أولياء الله الصالحين كلهم في زيارة لسيدنا الحسين، ورائحة عطرة في كل مكان".
فضلًا عن كونه مولدًا للذكر، ولكنه أيضًا يزيد من ترابط المجتمع الحسيني، فأضافت
فرنسا: "في تلك الأيام نتبادل الأطعمة والوجبات بين سكان المنطقة بالكامل،
ونزور بعضنا البعض، حتى الأطفال لهم دور أصيل في ذلك، وهذا يزيد من حب العطاء
والكرم داخلهم منذ الصغر".
إن كنت من رواد البيت، ستشعر أن الوضع اختلف كثيرًا عن ذي قبل، فتقول فرنسا:
"على الرغم من الاحتفاظ بأغلب العادات الحسينية في المولد، إلا أن لمسة
الشباب أضفت بعض الاختلاف، فنرى الدي جي يذيع الابتهالات والذكر بدلًا من بعض
الحلقات والدوائر التي كانت تٌنصب، ولكن للماضي طعم مختلف، فكان يستمر المولد نحو
شهر، والآن أسبوع فقط، ولكن أجيال تُسلم أجيال، كنت انتظر البعض كل عام يأتون
لشراء الطعمية وتوزيعها على الزوار، والآن أبنائهم من يقومون بذلك، أتذكر كل تلك
اللحظات وكأنها اليوم".
العطاء دائمًا يزيد الرزق، فحرصت فرنسا على خدمة رواد البيت منذ صغرها، حتى بلغت
عقدها الخامس؛ فكانت تشارك بتوزيع الأطعمة، وتعلم أطفالها وأحفادها أن زيادة
العطاء يزيد الرزق، فقالت: "دايمًا بوصيهم إن لزائري بيوت الله متحطوش بعدد،
زيد العطاء يزيد الخير".
ووجهت فرنسا رسالة لكل من لم يشارك في مولد الحسين من قبل، قائلة: "فاتك نصف
عمرك، مولد مولانا سيدنا الحسين ابن الأشرفين وحفيد الرسول، يجب أن يكون يومًا
مختلفًا يشارك فيه جميع المسلمون".
عامل بأقدم
مقهى: الجميع التف حول حب الرسول وحفيده
منذ 30 عام، وصل
لمنطقة الحسين شاب يُدعى سيد عبدالباقي، من مواليد الدرب الأحمر، يعمل في مقهى من
أقدمهم بالمكان، عاشق للمشهد الحسيني، والذي ينتظر المولد من العام للآخر،
"فيه اللي بييجي من أسوان والصعيد ومن بحري وقبلي، أرى كل أنواع وألوان
البشر، الجميع التف حول حب الرسول وحفيده، في النهاية يجمعنا شئ واحد، أتذكر
تحديدًا في هذه اللحظات شهر رمضان الكريم، نفس المشهد والروح تقريبًا.
وعن إحساسه المختلف في تلك اللحظات المليئة بالذكر، قال سيد: "لحظات مختلفة
لا يمكن وصفها، نشعر أن الرزق يزيد في تلك الأيام، وانتظر رواد المولد في كل عام
من كل محافظة، بعضهم يحضر البتاو والخبز وكل ما تشتهر به المدن، ونتشارك ثقافاتنال
مختلفة".
وعلى الرغم من ذلك، اختلف المشهد هنا
أيضًا، فيرى سيد كأحد أقدم القاطنين بالمنطقة، أن مولد الحسين كان له طعم مختلف في
ذلك الوقت منذ سنوات طوال؛ فكان الرزق واسع وكثير، ولكن أثرت زيادة الأسعار على
تقديم ذلك للرواد، واختفت بعض الأصناف والحلويات، ولكن يحاول البعض تعويض ذلك،
للاحتفاظ بتلك الروح.
عربي
الطيب: لمولد الحسين دفء خاص
في أحد جوانب شارع المعز،
يجلس عربي الطيب (سماك) على كرسيه البلاستيكي، أمام محله الذي شهد كل محطات شبابه
في منطقة الحسين؛ حيث عشق المكان وتفاصيله المختلفة، فليس من سُكانه، ولكن عاش
حياته فيه، وأصبحت له أسرة أخرى غير أسرته، أحب أحزانهم وأفراحهم، وشاكرهم فيها.
"بدأت حياتي هنا منذ عام 97، أي شخص يعيش هنا يومًا لا يستطيع أن يفارق
المكان لحظة، تشعر كإنك وسط أهلك لست غريبًا، التسامح والطيبة والكرم أصلهم، لا
أستطيع أن أعيش يومًا خارج الحسين، ليس لي علاقات خارج هذه المنطقة، على الرغم من
أنني في الأساس وُلدت في مصر القديمة، ولكن لم أشعر يومًا أنني غريب "، بهذه
الكلمات وصف عربي حبه الكبير لأهل المشهد الحسيني.
أما يوم مولد الحسين، فله حب خاص ودفء داخل قلب عربي، الذي اعتادت أذنه على سماع
الذكر في هذه الأيام من كل عام، بما يمثله له من رمز كبير، ووصف ذلك قائلًا:
"نتعشم في الحسين بشكل كبير، ونتبارك به، وأشعر أنه يوم عيد، حتى السيدات
تتزين في هذا اليوم كأنه فرح".
عم سمير: مولد الحسين بالنسبة لنا أكثر من العيد
"الحسين مكان
مختلف، رائحة الآثار القديمة تملأ المكان، وأثير الذكر يطرب أذنيك خاصة في هذه
الأيام"، بهذه الكلمات بدأنا حديثنا مع عم سمير، من كبار سُكان حي الحسين،
والذي بلغ عقده السادس من العمر، أفنى عمره في هذا المكان عاشقًا.
ويستغل عم سمير المولد كل عام، ليصنع صداقات جديدة من محافظات مختلفة، قائلًا:
"لدينا أصدقاء من إسنا والصعيد وبحري ومن كل المحافظات، وبالنسبة لنا ليس
عيدًا، ولكن أكثر من العيد بكثير، هكذا اشتهرت الجمالية، بيوت وأهل كرم، فننتظر
هذا اليوم لينطلق الذبيح ونرى الخير في كل مكان".
ورغم ذلك، شعر عم سمير بالحزن قليلًا هذا العام؛ فلم يعد رواد مولد الحسين بنفس
الأعداد التي كانت منذ أعوام، فاعتاد سُكان المنطقة على آلاف المريدين، الذين
يأتون من كل محافظات مصر، وأحيانًا من بعض الدول، ولكن هذا العام تحديدًا، لم نرَ
-بحد وصفه- سوى المئات.
ودائمًا كان عم سمير حريصًا على أن يُعلم الأطفال والأحفاد تقاليد ما عاش عليه
آباؤهم في كل عام، قائلًا: "بالنسبة للأولاد هو يوم فسحة، حتى الأطفال يعشقون
هذا اليوم بكافة تفاصيله".
عم محمد: أبًا عن جد أعشق مولد الحسين
توارث حبه، وعاش في
وسط المريدين والأحباب حياته، هو عم محمد صاحب "عربة فول" بمنطقة
الحسين، والذي عمل في تلك المهنة لسنوات طِوال، فأحس بالمسؤولية تجاه كل زوار آل
البيت في المولد، وأصبح يُعد ويجهز له قبل مجيئه بنحور شهر كامل.
تعلم عم محمد من والده أن ينتظر مولد الحسين كل عام، فيخرج منذ أن يشق نور الفجر
السماء، ويشعر أنه عيد، وينتظر الثلاثاء الأخير من ربيع الآخر، ليذوب حبًا في هذا
اليوم، الذي يختلف بتفاصيله عن العام كله.
"تعلمت هذا أبًا عن جد؛ فحرص والدي على أن يزرع داخلي حب سيدنا الحسين، فكان
يعمل على هذه العربة التي ورثتها، وورثت تاريخها وذكرياتها، وأيضًا عاداتها التي
كان يقوم بها والدي وقبله جدي".