منى غنيم تكتب : خذني إلى الكنيسة (الجزء الأول)

ركن القراء

بوابة الفجر


أخطو عبر الغابة المُوحشة الباردة ليلًا، أنحني لألتقط حفنة من أوراق النخل المتكسرة المُبعثرة حولي لأصُرْها فتصير مشعل أشعله بكبريت من جيبي،هذا أفضل، الآن أرى، الغابة رمادية، كل شيء رمادي، حتى أنفاسي، الليل حالك، أسمع صوت تكسُّر الحشائش حولي فلا آبه بالنظر،القمر قاتم، لكني أتقدم، قابلت الكبش العملاق أولًا، ارتفاعه كبناية ذات عشرة طوابق، نظر لي فنظرت له، ثم تركته لأذهب إلى موضع ذلك الصقر العملاق فوق التل، كان يحدق بي ولا يفعل شيئًا، هل يظنني عشاء؟ إنه في حجم تنين رضيع رمادي اللون، رمادي كالليل كالغابة كالموت كالحياة ككل شىء، أشرت له فحلّق بعيدًا وما أن ابتعد حتى أتت تلك السمكة سابحة في الفضاء على استحياء، سمكة عملاقة قد تنهي مجاعة بلدة بأكملها إن تم طهيها جيدًا، لكن هذا لن يحدث بالطبع لأنها رمادية، وهنا في أرض الرمادي كل شىء مُقدس ومُحرّم أكله، إلا الألوان..

 

-محماااااااد

 

شردني عن خواطري صوت سامح زميل العمل والطفولة والحياة؛ ترعرعنا معًا وارتدنا مدرسة واحدة والتحقنا بنفس الجامعة وتقدمنا لاختبارات نفس الوظيفة ونجحنا بها، تزوجنا وأقمنا حفل زفافنا في نفس الليلة! شقتي في الطابق السادس فوقه مباشرة، نخرج سويًا كل يوم في الثامنة صباحًا فيصطحبني بسيارته إلى مقر الجريدة ذائعة الصيت حيث نعمل صحفيي ديسك، الديسك لمن لا يعرف هو مطبخ الصحافة حيث يُطهى الخبر ويُزوَّق ليُقدّم ساخنًا، يعكف العاملون به على مراجعة وتنقيح كافة الأعمال التحريرية من جميع الأقسام وقولبتها في قالب منمق يصلح للنشر، أي أنك يجب أن تتحلى بسرعة بروس لي ودقة سيبويه وحضور ذهن سقراط وموهبة طه حسين وقوة تحمُّل أطلس حتى تشغل هذه الوظيفة، كان يشتت انتباهي عمدًا ببساطة لأنه لا يروق له ما أرسمه، ألم أخبرك؟ أنا مُكتئب، كما يجب للاكتئاب أن يكون على رأي ترجمات الأفلام، لقد اعتدت هذا على أية حال، شاهدت منذ فترة وجيزة على الفيسبوك لوحات قاتمة عظيمة لفنان بولندي يُدعى داوود بلانيتا قد صوّر اكتئابه على هيئة غابة رحيبة رمادية اللون مُجبر هو على السير فيها ومواجهة مخاوفه وأفكاره السوداء وقد تجسدت على شكل حيوانات عملاقة، منذ وقعت عيناي على تلك اللوحات وأنا لا أبرح الغرق فيها ، أرسمها فتنتزعني من شطآن عالمي بسلاسة وتأخذني معها إلي حيث أنتمي، بالطبع لا يعجب هذا سامح "الفرفوش" الذي لا يتوقف عن إخباري أن الاكتئاب مرض عقلي من أمراض الهواة يسهل التغلب عليه؛ ليس سرطانًا ولا داءً في الكبد وليس أيدزًا! الشفاء منه أسهل من ابتلاع  كوب من الماء.

 

-كيف؟

-عن طريق إقناع عقلك أنك لست مكتئبًا.

 

يا صلاة النبي! هل سمع يومًا عن من يده في المياه؟ لابد أن هذا المثل وُضِع على سامح وهو جالس يلهو في بركة يومًا ما، لم أجادل فأنا أحب سامح حقًا، ومن مآثري تجنب الشحناء- كلما استطعت- مع من أحب، ثم إن إعادة رسم تلك الروائع لا يشغلني عن العمل، فأنا كما قلت لك معتاد على هذا، لقد صار الاكتئاب صديق عُمر وعشرة أكثر من سامح، فقط هو يسكن جسدي عوضًا عن الطابق الخامس، حتى أني منحته اسمًا، الكينج، لأنه حقًا ملكٌ حين يتوحش وحين يطفو على السطح فيملك وأصير أنا العبد الذليل في جسدي، سألتني زوجتي يومًا عن ماهية الاكتئاب فلم أدر كيف أجيب، إنه سطوة الألم، إنه ذروة الضعف البشري، إنه استيقاظك فجأة في عُرْض البحر وإدراكك أنه بالرغم من كل ما كان وكل ما سيكون لن تنجو وستهلك، إنه بحر الظلمات ووحشة الموت في أجساد الأحياء، كيف أخبرها أن 99.9 بالمائة من خلافاتنا لم أكن أنا البطل المُجادل فيها كما حسبَت، بل كان الكينج، عندما نهرتها حتى بكت حين قطعت حبل أفكاري وأنا جالس أنهي بعض الأعمال في المنزل وعندما عنّفتها بوابل من السباب حينما لم أجد فنجان قهوتي على المائدة ووجدته في غسالة الأطباق حيث أخبرتها ألا تضعه، لم أكن أنا يا غاليتي، أنا لطيف طيب المعشر، لقد كان الكينج، تقتلني رؤيتها تحاول، تقضي النهار في البحث على جوجل عن أحدث النكات والقفشات، تتفنن في انتقاء ملابسي للعمل، تتحمس كل ليلة كقطة وليدة للسهر في أحدى الكافيهات أو للذهاب إلى حفلة في الأوبرا وكأنها قرأت إعلان الحفلة للتو ولم تخطط لهذا منذ أسابيع، تنهل من ينابيع السعادة لتسقي بها أرضًا لا تعي أنها بورٌ، إنه ليس أنتِ يا صغيرتي، إنه الكينج، حتى جوديت، طفلتنا الملاك الصغير قد نالت من الكينج جانب وتلقت بضعة طلقات حينما كانت تلهو-كما يجدر بها أن تفعل- ولم أكن أنا في المزاج الرائق للفرجة على لوحة بديعة الألوان كهذه، عمى ألوان!هذا ما يجلبه لك الاكتئاب بالظبط، إنها متلازمة الإصابة بدائين، أنت تعجز حقًا عن رؤية الأشياء إلا حين اصطباغها باللون الرمادي الجميل، الرمادي العظيم، الرمادي الإله، إني أقدسه، ولم لا أفعل؟ فقد فعلها من قبل الفيلسوف الروماني إميل سيوران الذي قدّس ماهو أغرب، لقد قدّس الموسيقار الألماني باخ! هكذا، ببساطة، بل قال أن باخ قد يكون الدليل الوحيد على وجود إله خالق مُبدع لأن غير ذلك هو لا يرى الله سوى صبي عابث يلهو بالأشياء وهولا يعلم ماذا يفعل حقًا ولولا وجود باخ لكان حريَّا بنا اعتبار ذلك العالم الذي خلقه "فشل أعظم"، على الأقل لم أصل إلى حد العدمية مثل سيوران، أم تراني وصلت؟ هل أؤمن بالآخرة حقًا؟ أم وجودها يستوي عندي مع عدمه؟

 

-ألن تصلي الظهر؟

 

قالها سامح وأتبعها بضحكة خبيثة مجلجلة تساقط فيها لعابه فوق الأوراق، يظن سامح أنه لا يوجد في هذا العالم "إفيه" أكثر إضحاكًا من حقيقة كوني مسيحي واسمي محمد، بالرغم من أنه يعرف الحكمة وراء هذا؛ فلقد توفي كل أخوتي الذكور عقب ولادتهم مباشرة فنصحت أحدى العجائز الحكيمات أمي أن تُطلق على المولود الجديد اسم عجيب وغير مُتوقّع لعله يعيش، وهكذا صرت محمدًا وظل سامح يضحك إلى الآن، المفارقة هنا أني عشت، صدفة كونية بحتة أخرى من الصدف التي يعج بها عالمنا، والدة إميل أخبرته ذات يوم أنها كانت تعتزم إجهاضه لكنها لم تفعل فضحك، هو أيضًا صدفة تساوت احتمالات وقوعها مع عدمها.

 

((ربما الكينج هو من عاش))

 

دق جرس هاتف المكتب

-ألو

 

جاء الصوت بعد فترة صمت هادئًا واثقًا مهيبًا آتٍ من فضاء لا متناهي

 

-موعدنا غدًا السابعة في المصعد

-من أنت؟

-أنا الكينج

 

وضعت السماعة وكل ذرة في ترتجف، سألني سامح عن هوية المتصل فلم أجب.