مع بُزوغ أشعة الشمس الأولى، يستيقظ مسعد سليم كعادته يوميًا منذ أكثر من عشرين عامًا قبل شقيقه الأكبر، يتأهب في تجهيز أعواد الجريد، المُتراص على أطراف الرصيف المحاذي لـ"عشتهم" المكونة من غرفة واحدة، لم يتناول فطوره بعد، بانتظار خميس حتى الثامنة صباحًا، أَيقظه وشرعا في صناعة الأقفاص "سنين واحنا على الحال ده.. رغم أننا عارفين أنها صانعة مالهاش مستقبل"، إلا أنها ستظل تتقدم على المنتجات الحديثة طيلة وجود التجار والمواطنين البسطاء.
لم يتنغّم مسعد، بحرف متواصلاً عمله الذي تعلمه في العاشرة من عمره، لاسيما وأنه لا يحظى بحرفة سواها بعدما عمل في الحقول مع والده ثلاث سنوات، "الجريد أول صانعة اتعلمتها من أخويا الكبير بعد ما أبويا أجبرني عليها"، نظرًا لضيق الحال مع يوميته التي كانت تصل إلى عشرين جنيه، برغم من تكبَّده وتحمَّل مشاقة صناعة الأقفاص- التي ليس لها هيئة تأمين اجتماعية ومعاشات- "مش جايبة همها.. يدوب نسد جوفنا بدخلها"، يقاطعه فرج حسين، صاحب مزرعة نخيل، مُناديًا عليه لتنزيل الجريد، فعبس وجهُه، مطالبًا من شقيقه القيام بهذه المهمة.
واستمر صاحب الـ (32 ربيعًا) في جَلف وقشر الجريد، متذكرًا أن عمله أنساه البسملة، فرددها مع الانتهاء من
القطعة الرابعة، عقب استغراقها ساعة كاملة، فالقفص الواحد يتكون من من 58 عودًا و42 عرضة "وفي الأخر مصنعيته 6 جنيه.. والتاجر يبيعوا بعشرين جنيه"، بينما مكسبه في اليوم يترواح ما بين 70 إلى 80 جنيه، فقدرته لا تتحمل صناعة أكثر من 20 قفص في اليوم "بفضل اشتغل لحد ما عيني تغمض على الساعة 12 بالليل". أمعن خميس النظر في الأعواد وبدء يقطع فيها بحرص، خاصة عقب تعرضه لإصابة دامت أكثر من أسبوع، تسببت في حرمان أسرته من المصروف الأسبوعي وعدم سفره إلى بلده في قرية تطون بمحافظة الفيوم "كنت بستنى آخر الاسبوع بفارغ الصبر أنا وأخويا.. بنروح نريح جسمنا على السرير بدل القفاص اللي بنام عليه.. وناكل لقمة فيها طبيخ بدل الفول.. وبناخد 150 جنيه الفاضلين من المصاريف اللي ببعتها"، طيلة الأسبوع، فتعتاش أسرته المكونة من ثلاث أفراد بمبلغ 200 جنيه أسبوعيًا.
ترفل خميس، ثوبه وأمسك بالألة الحادة -السكين- وواصل قطع الجريد وفصل شرائط الخوص، لتضفير القفص "بياخد خمس أعواد من جريدة التقليم سعر العود جنية ونص.. أما الجريدة المحملة الناشفة بتاخد 5 أعواد الواحد منه سعره 100 جنية.. علشان كده بنحمل واحد من التاني على خمسه من الأول.. لأن المكسب برضه قليل على التاجر ولو في مكسب كان عرقي هيزيد"، مقارنًا ذلك بالأقفاص المصنعة من البلاستيك التي تتربع على عرش هذا المنتج حتى بعد كسرها فهي تباع بالكيلوا ويصل سعرها في المصانع للنصف "الخسارة بس لينا.. خاصة اللي بيموت دلوقتي مننا مفيش مستقبل لولاده ولا كانه كان موجود.. لأن المكسب يدوب بيروح في المصاريف".
اشتد العبء الملقي على كاهل صاحب الـ(35 ربيعًا)، حتى لم يتمكن من تعليم نجليه "طلعت لبنى من رابعة ابتدائي.. وأحمد من تانية ابتدائي من قلة الفلوس"، برغم من تفوق الابنة التي يبلغ عمرها (13 عامًا). أصَاخ إليه شقيقه، وعيونه شاخصة صوب تليفاز صغير أمامه "الواحد سنة عن سنة جهده بيقل وخلاص الأقفاص أخدت عمرنا". غَض مسعد غُصن الجريد، متسربلا بالصبر، خاصة أن يومًا بعد يوم هناك تطورًا كبيرًا في عالم التكنولوجيا الخاصة بهذا الشأن "القفصة يوم ما تتباع غالية سعرها مش هيتعدى 21 جنيه يعني جنيه مكسب عرقها ميت.. والبلاستيك تمنها 30 جنيه فأنا لو تاجر هشتري البرنيكة البلاستيك ..بس الجريد مفيدة للزرعة عن البلاستيك"، لذا الإقبال عليها أكثر خاصة في القرى- كقرية كفر البطيخ التي تعلما فيها أصول الحرفة-.