د. هاشم بحرى لـ"الفجر": طالب الهندسة تم إجباره على الانتحار.. و70% من البشر لديهم اكتئاب لا يحتاج علاجا

العدد الأسبوعي

الدكتور هاشم بحري
الدكتور هاشم بحري


أغلب المرضى النفسيين فى مصر يعلمون أنه "ابتلاء من ربنا".. والمنتحر شخص فقد القدرة على التفكير

لا يوجد ما يسمى اكتئاب الرفاهية.. و"الفضفضة" أحد الحلول الشافية


وتحدث النقاشات اليومية من منطلق دينى، فالشعب المصرى فى أغلبه متدين بطبعه، يدين فعل الانتحار كونه فعلاً نتج عن قلة إيمان ويأس من رحمة الخالق، لكن للطب النفسى آراء مختلفة، منها ما يفسر الانتحار بأنه إنهاء لآلام نفسية ومعاناة شديدة، أو لحظة غياب للعقل كما يؤكد لـ«الفجر» د. هاشم بحرى، أستاذ الطب النفسى وعلاج الإدمان، المتخصص فى الطب الأسرى بجامعة الأزهر، وزميل جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة الأمريكية، وعضو الاتحاد الأمريكى للأطباء النفسيين.

يرى هاشم بحرى أن للانتحار أسباباً كثيرة، أهمها الاكتئاب الذى ينقسم لعدة أنواع أشهرها 3 أنواع هى: الاكتئاب الموقفى، ومنه على سبيل المثال الحزن الوقتى الذى يتسبب فيه مدير العمل، أو إحدى المشكلات العائلية، وهو نوع يصيب ٧٠٪ من البشر ولا يحتاج علاجاً، وتعد «الفضفضة» مع أحد الأصدقاء المقربين حله الأمثل، أما النوع الثانى فهو الاكتئاب العصابى، ويصيب قرابه ٧٪ من السكان، وهو متوسط القوة ومن أعراضه الاستيقاظ من النوم فى حالة كسل مع عدم وجود رغبة فى ممارسة الأمور اليومية العادية أو تناول الطعام، وقد يأتى فى صورة شره للطعام بالإضافة لاضطرابات النوم سواء فى شكل أرق أو نوم لساعات أكثر من المعتاد، لكنها أعراض يمكن التعايش معها، خاصة أنها تتلاشى تدريجيا مع اندماج الإنسان فى العمل على مدار اليوم، وهناك اكتئاب يحتاج لمساعدة بسيطة من العلاج الدوائى، ويصيب هذا النوع ٢٠٪ فقط من السكان، أما النوع الأخطر فهو الاكتئاب العقلى الذى يصيب ١٪ من البشر.

وهذا النوع عنيف جداً، وغالباً يكون موروثاً من أحد أفراد العائلة، وفيه يشعر الإنسان بأنه شخصياً سبب مشاكل الحياة، وأنه مسئول مثلاً عن مسلمى بورما، أو مشاكل أفغانستان، ما قد يجعله يلجأ للانتحار، وفى بعض الحالات قد يقتل المريض أبناءه ثم يقتل نفسه، اعتقادا منه أنه يحل الأزمة بالقضاء على نسله، وهذا النوع يحاصر الشخص على مدار اليوم، لمدة 3 أسابيع على الأقل، يظل خلالها مقتنعاً بضرورة التخلص من حياته، وإذا كنا نرغب فى الاقتراب أكثر من صور الاكتئاب فسنجدها فى رباعيات صلاح جاهين.

■ ما الفرق بين «الميول والأفكار» الانتحارية؟

- هناك أشخاص يفكرون فى الموت طوال الوقت، لكنهم لا يقدمون على خطوة التخلص من حياتهم، وهؤلاء يمكن تصنيفهم بأن لديهم أفكاراً انتحارية، أما الذين لديهم ميول انتحارية فيصرون طوال الوقت على التنفيذ، ولابد أن نفرق بين الاكتئاب الحقيقى والزهق.

أما الاكتئاب العقلى فإن المصاب به يرسل عدة إشارات قبل الوصول للقاع، لابد أن ينتبه لها من حوله، مثل طالب الهندسة الذى انتحر من أعلى برج القاهره، فقد أخطر من حوله أنه يريد الانتحار، وعندما لم يجد استجابة لإشاراته اتخذ الخطوة، و٩٠٪ من المقبلين على الانتحار يكون لديهم إحساس بأن الاكتئاب سيزيد جداً وليس لديهم حل سوى إنهاء حياتهم.

■ هل لديك تفسير لإصرار طالب الهندسة على الانتحار رغم محاولات أحد الأشخاص لإنقاذه أعلى البرج؟

- طالب الهندسة لم يصر على الانتحار، بل كان يتمنى إنقاذه حتى آخر لحظة فى حياته، والدليل على ذلك ذهابه إلى برج القاهرة، ما يجعله عرضة للإنقاذ من أحد الأشخاص المحيطين به، أو سيمنعه أحدهم بأى شكل، هذا الشاب أعطى إشارات وإنذرات كثيرة حتى تملكه اليأس، وذلك على عكس من يكون لديه إصرار على إنهاء حياته ويفعل ذلك فى غرف مغلقة، لأنه لا يريد أى نوع من أنواع الإنقاذ.

■ هل هناك فئات تنتشر بينها حالات الانتحار؟

- الشباب من ٢٥ إلى ٣٥ عاماً، يليهم كبار السن، ثم الأطفال وهى ظاهرة تتسبب فيها التربية المتزمتة ومنع الأطفال من ممارسة طفولتهم بشكل طبيعى، فى النهاية يحاصرهم الكبت ويصرون على الانتحار، ومنهم من يلقى نفسه من البلكونة وإذا تم إنقاذه يقرر الوقوف أمام سيارة فى طريق سريع، أو أمام قطار.

■ كيف نتعامل مع ذوى الميول الانتحارية؟ وكيف يتخلص الشخص من ذلك الشعور؟

- هناك شخص يفصح عن رغبته فى الانتحار، فيظهر عليه عدة أشياء يسهل متابعتها، مثل العزلة وعدم الاهتمام بالنفس، أو يقوم بشراء سلاح، أو مشاهدة أفلام عن القتل والانتحار، ويفتح الحديث كثيرا فى هذا الموضوع، أو يتعاطى مخدرات ويصبح غير متزن خلال حديثه مع الآخرين، عند ذلك يجب على الأسرة السؤال عن الأسباب، ولابد من مساعدته بالعرض على أحد الأطباء، أو مساعدته بأى طريقة ممكنة، وهناك أماكن يمكن للأسرة أن تلجأ إليها، مثل عيادات الطب النفسى بالجامعات، أو المستشفيات العامة، أو الأطباء النفسيين، أو الخط الساخن الذى أطلقته الدولة.

■ هل يساعد الحديث مع ذوى الميول الانتحارية على إلغاء الفكرة من أذهانهم؟

لا أظن.. لابد من وجود متخصص.

■ هل تساعد منظمات المجتمع المدنى فى الحد من الانتحار؟

- لا طبعا.. لأن التمويل يأتى لعلاج الظواهر العامة، نحن هنا نتحدث عن أشخاص لا يتجاوز عددهم ٤ آلاف من ١٠٠ مليون مواطن. وأغلب المنظمات لا تطلب تمويلاً على أمور بعينها بل تذهب للعمل فى مجالات يمنح لها تمويل، مثل مساعدة أطفال الشوارع إذا كانت اليونيسف تمنح تمويلاً لهذا الأمر.

■ خلال يومين شهد المجتمع ٦ حالات انتحار تقريباً.. هل يعنى ذلك شيئاً؟

الانتحار ليس معديًا، لكن التركيز على نشر تفاصيله فى الإعلام قد يدفع الراغبين فى الانتحار على اتخاذ خطوة مماثلة.. هذا العدد ليس له أى معنى، نحن ١٠٠ مليون شخص، ولا يجب اعتبار أن الانتحار أصبح ظاهرة تحدث يومياً.

الشعب المصرى يتعرض لضغوط كثيرة لكنه لا يلجأ للانتحار خوفاً من العقاب الإلهى، هناك حالات عندما سألتهم لماذا لا ينتحرون قالوا «ربنا ابتلانا وإذا انتحرت سأكون قد تعذبت على الأرض وفى الآخرة».

المنتحر فى مصر أظنه وصل لمرحلة عدم الأهلية وفقدان القدرة على التفكير، أى وصل بالفعل لحد الجنون.

■ كيف يتم العلاج بالطب الأسرى والنفسى؟

- العلاج الأسرى جزء من الطب النفسى، وهو مهم جداً وله تقنيات وتركيبات من الممكن أن تساعد الأسرة فى فهم الأزمة منها رصد المشكلة وإعادة رسم الأدوار داخل العائلة، أما الطب النفسى فنحن عددنا فى مصر لا يتجاوز ١٠٠٠ طبيب، والحاصلون منهم على الماجستير والدكتوراة لا يتجاوزون ٤٠٠ طبيب، منهم ٢٠٠ يعملون فى مصر، والباقون فى الدول العربية، ولا يوجد أطباء نفسيون فى سيناء أو الواحات وحلايب وشلاتين على سبيل المثال، وأحب أن أوضح أن العلاج النفسى لا يشفى بصورة قطعية وأكيدة، لابد من توافر عوامل أخرى مثل رغبة المريض نفسه والعائلة ثم المجتمع، فإذا اختل أحد تلك العوامل لن يستطيع الطبيب الوصول لنتيجة شافية.

■ هل يؤدى الانعزال إلى الانتحار؟

- ليس كل الانعزال وليد اكتئاب، هناك انعزال إيجابى مفيد مثل حالة المفكر جمال حمدان، الذى قدم لنا «شخصية مصر».

■ هل يؤدى الاكتئاب الذى يتزامن فى بعض الأشخاص مع تغير فصول السنة أو اكتئاب الرفاهية والحمل يؤدى إلى الانتحار؟

- اكتئاب الحمل عادى يزول بمرور الوقت، لكن لابد من المتابعة مع طبيب نفسى أثناء هذه الفترة، ويمثل هذا النوع ١٢٪ من المصابين بالاكتئاب العقلى.

أما اكتئاب تغير الفصول فقد يكون عصابيًا أو موقفيًا أو عقليًا، حسب التشخيص، أما الرفاهية فلا تسبب انتحارًا، هذا كلام غير منطقى بالمرة، ومن يضربون المثل بالدول الاسكندنافية فهم جهلاء، لأن أسباب الاكتئاب فى تلك الدول أبرزها غياب الشمس لفترات طويلة من السنة، وهو ما يخالف طبيعة الإنسان الفسيولوجية ويصيبه بالاكتئاب، وعندما تم حل الأزمة باختراع أجهزة الإضاءة الشمسية انخفض معدل الاكتئاب.