د. رشا سمير تكتب: البشر من الاختبار إلى الاختيار
ونحن على أعتاب تغييرات وزارية مرتقبة، ونحن على أعتاب انتخابات برلمانية تلوح فى الأفق بالأمل، وبعد أن خرجت حركة المحافظين ونوابهم من الشباب لضخ دماء جديدة فى مياه راكدة علها تحرك ساكنا..
فى خضم هذا وذاك، قررت أن أعود مرة ثانية إلى قراءة واحد من أهم الكتب التى كُتبت فى مفهوم الإدارة..فأخرجت من مكتبتى كتاب (البحث عن القادة) والتى كتبته «هيلارى أوين» متحدثة عن مفهوم القيادة، الكتاب يشرح كيف أن القيادة ليست للأشخاص الذين يحتلون مراكز فى قمة الهرم داخل منظماتهم فحسب، بل هناك قيادة كامنة فى كل شخص إذا أحسنا الاختيار، تصل الكاتبة فى نهايته إلى نقطة مهمة تقول فيها: «لا يوجد نقص فى القادة كما يعتقد البعض، الأمر ببساطة أننا لا نراهم أمامنا».
التجربة تؤكد لنا أن المشكلة لا تكمن فى «عدم وجود قادة» بل فى «ضعف الآليات المستخدمة لاختيار القيادات الإدارية المناسبة، إضافة إلى وجود عدد من العوامل التى تعوق الاختيار الصحيح للقيادات.. مثل اعتبارات العلاقات والمجاملات والتحيزات الشخصية، والفساد وتفريخ حالاته، والبيئة البيروقراطية غير المشجعة للقيادات المبدعة والمقيدة للإبداع والابتكار والمحاربة للتطوير، بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بوضع معايير مهنية موضوعية وواضحة تركز على التغيير والإبداع والرؤية طويلة المدى..
الباحثون عن المناصب أصبحوا يرتدون مؤخرا معطف (عبده مشتاق)!
وويل لما يستدعيه هذا الاشتياق من تملق وتدليس وانغماس فى الشللية، وشيلنى وأشيلك..
رجعت بالذاكرة إلى الخلف سنوات طويلة فتذكرت....
كيف أن اختيار القيادات الجامعية على مر العصور كان مصدراً مهماً لتراجع التعليم فى مصر، فالأقل كفاءة هو المنوط بالاختيار والتقييم والترقى.. هنا أتذكر الامتحانات الشفهية على سبيل المثال وليس الحصر فى كلية الطب، التى كانت تنقسم ببساطة إلى شقين أو صورتين، صورة خاصة بأبناء الأساتذة، وصورة خاصة بالغلابة أبناء (اللى مش أساتذة)!..فكانت الأسئلة تبدأ من (سمع لى المنهج يا حبيبى من صفحة 12 لحد صفحة 432 وخد وقتك، إحنا مش مستعجلين)!
وعلى الصعيد الآخر يكون السؤال (بابا عامل إيه يا حمادة؟ قول له يا حبيبى أونكل حازم باعت لك السلام، ويالا يا شطور قولى المادة اللى أنت بتمتحنها النهاردة دى اسمها إيه؟)..
وطبعا، بينجح حمادة ويتم تعيينه متخطيا طابوراً من البؤساء، أبناء اللى مش أساتذة!.
وأتذكر أيضا، كيف كان يتم اختيار أعضاء فريق كرة السلة والتنس بالنادى، فمن بين كل الأمهات البائسات اللاتى يقضين ساعات فى الشمس على أمل انضمام أبنائهن للفريق، يتم اختيار ابن الأم التى تجيد صنع الكيكة والتى تتمتع بذوق متميز فى اختيار الهدايا والتى تستطيع الحصول على استثناء من رئيس النادى حتى لو كان ابنها مشلول!.
انتابتنى نوبة من الضحك وأنا أرقب البرلمانية الشابة التى تنازل لها والدها عن مقعده البرلمانى فى إحدى المحافظات (وكأنه إرث خاص) والتى كانت تسأل أصدقاءها فى جلسة خاصة بعد أن نجحت فى الحصول على المقعد باكتساح، فى مقابل أن يقوم الوالد بخدمة أهالى الدائرة وهى منشغلة بالتصوير (السيلفى) فى المؤتمرات والحفلات الغنائية والسفريات..أتذكر سؤالها البرىء: (هو مين اللى جه رئيس مصر الأول، عبد الناصر والا السادات؟!)..أقسم بالله أن هذا ليس خيالاً بل هو واقع مرير!.
هكذا يتم اختيار البشر فى مصر..والأسوأ أننا أحيانا من نقوم بالاختيار..
قال فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى جلسة إسأل الرئيس: «إن الجدية والتجرد وعدم وجود المجاملة والانتقاء تعتبر معايير نجاح أى قطاع فى الدولة بما فيها الرياضة».
إذن الرئيس يدعو لاختيار الكفاءات ويدعم التغيير حتى فى الرياضة، فما هو السبب الحقيقى وراء هذا الإخفاق الذى نراه فى مختلف القطاعات؟!.
نظرية (عبده مشتاق) جعلت حتى الشباب يسعون لدخول البرامج التأهيلية لمجرد التباهى والسُلطة والمنظرة الكاذبة..هكذا انتقلت العدوى إلى جيل جديد..
التقارير والدراسات تؤكد أنه إذا لم يكن بين فريق العمل لديك من لا يتجاوز عمره 30 عاما فثق أنك أقرب إلى الفشل مما تتصور..ولكن أى نوعية من الشباب؟ وهل تعمل فرق العمل بروح الجماعة بالفعل؟ الإجابة تكمن ببساطة فى الإخفاق المُزرى لفريقنا القومى حتى فى وجود النجم محمد صلاح!.
دعونا إذن نتفق على عدة مُسلمات..أهمها، أنه ليس كل من حمل قلما أصبح كاتبا..ولا كل من نشر كتابا أصبح مبدعا..ولا كل من حصل على مقعد تحت القُبة أصبح برلمانياً.. ولا كل من امتلك عينين أصبح مُبصرا..ولا كل من امتلك صوتاً تحول إلى فيلسوف..ولا كل من نجح فى الحصول على منصب استحقه عن جدارة..
الاختيار يا سادة لا يعنى اجتياز الاختبار، لكن العكس هو الصحيح!.