محبة عمرها 4 عقود.. مكتب رضوى عاشور بالجامعة لا يجد حرجًا في العناق
التعلّق ليس قاصرًا أحيانًا على الأشخاص، قد يتعلق الإنسان بأشيائه المادية التي يألفها فيجد في غيابها فراغًا لا يملؤه سواها، وبقدر رهافة الإنسان ورقته تتصاعد داخله وتيرة الارتباط بما حوله من جمادات، فتكبر الأشياء في عينيه، تتحول في نظره كما الأشخاص، قادرة على تلمس ما يدركه من أحداث وما يعصف به من شدائد، يتوحد معها لأنها كانت شاهدة على الكثير من تقلبات الأيام، فتتحول إلى برج ثابت في الزمان، يأوي إليه حمام الذكريات، الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أيام، مزدانة بالحب، ومرصعة بالفقد.
بنهاية طرقة طويلة بالطابق الرابع بكلية الآداب جامعة عين شمس، يقع قسم اللغة الإنجليزية، مغلق على باب خشبي كبير، لذا تخف فيه الحركة، بعكس السلم الرئيسي في الجهة الأخرى، والذي يتكدس بالطلاب المُتنقلين بين الأدوار طوال اليوم الدراسي، ففي حين يعم الصخب والزحام الأقسام الأخرى، تلف القسم الذي يتشارك الدور ذاته مع قسم الجغرافيا حالة من الهدوء، يأتي بعض الطلاب بين حين وآخر، يمازحون "عم أحمد" ساعي القسم، يطلبون منه بعض الملازم أو يحجزن الكتب الجديد، بينما يقف آخرون مع معيدي المواد يتناقشون معهم حول المشاريع البحثية التي يعملون عليها.
كانت كل أبواب غرف أساتذة القسمين مفتوحة، إلا الغرفة الموجودة في نهاية الطرقة الصغيرة، على يمين القادم من السلم الجانبي الصغير، والكائن بها مكتب رضوى عاشور، حيث ظل مكتبها لمدة أربعة عقود، لم تغيّره إلا لثلاث سنوات، عندما رأست القسم، فانتقلت إلى الحجرة المخصصة لها ولاجتماعات مجلسها، لكنها عادت إلى المكتب نفسه فيما بعد، تحكي رضوى أن المكتب كان شاهدًا على الكثير من أحداث حياتها، صار بينهما ألفة تفتقد معها وجوده، في كل مرة يتحتم عليها البقاء في مكان ما مدة طويلة.
مكتب صغير واقع في نهاية الحجرة، يحده من الجانبين طاولتان كبيرتان تتراص حولها عدد من الكراسي الخشبية، فيما يفصل بينهما طرقة صغيرة لعبور المارة، في تلك الحجرة كانت رضوى عاشور تلتقي بالطلاب والباحثين الذين تشرف على رسائلهم، كما كانت تتحول في بعض الأحيان إلى قاعة درس مصغرة، تلقي فيه محاضراتها إلى طلاب الدراسات العليا، الذين لم يكن يزيد عددهم في بعض الأحيان عن 12 طالبًا، كما كانت تجتمع فيه اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة أثناء فترة رئاستها، لاحقًا يقصد الحجرة بعض الطلاب والمعيدين، الذين يهربون من الصخب الذي يستبد بكل جنبات الكلية.
مرت 5 سنوات على رحيل رضوى، لكن ظل كل شيء داخل مكتبها على حاله، تجمدت الأشياء في مكانها، تمنطق المكتب داخل حدوده المرسومة له بنهاية الغرفة، ظل على ذات الصورة التي وصفتها رضوى. تحت اللوح الزجاجي على سطح المكتب يوجد مستنسخ لوحة "برهان كاركوتلي"، وهي لوحة مرسومة بالحبر الأسود لقباب القدس ومآذنها وأبراج كنائسها، يعلوها ويتصدرها قرص الشمس، مكتوب داخله "الأرض لنا والقدس لنا"، يجاوبه في أسفل اللوحة قبة الصخرة والسور الممتد للأقصى، تزينه النخيل وزخارف لطيور وزهور ونباتات تستلهم التراث الفلسطيني، لم يتغير فيه سوى لوحة متوسطة موضوعة على الجدار أعلى المكتب، تحمل صورة رضوى عاشور مزيلة بأهم أعمالها، إلى جوارها لوحة أخرى تضم أشهر الكتاب الإيرلنديين.
بعد رحلة علاج طويلة قضتها رضوى عاشور في أمريكا عام 2011، رجعت متلهفة إلى مكتبها، بعدما ابتعدت عنه لشهور طويلة، وقتها تمنت أن تعاقنه وتقبله كما فعلت مع زميلاتها، لكنها تراجعت عن رغبتها، خوفًا من أن تُتهم بالجنون، اكتفت فقط بأن تطلعت إليه، لأنها قدّرت وقتها أنه سيفهم التفرقة في المعاملة الاضطرارية، لكن وبعد هذا الرحيل الطويل، الذي يحجم فيه الجميع عن الجلوس عليه بعد رحيلها، فإنه لا يستشعر الحرج في العناق والتقبيل.