حزن لا يداويه الزمن.. عالم "مها عمر" موحش دون رضوى عاشور

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


أواخر عام 2008 التحقت "مها عمر" بمدرسة المترجمين في أسبانيا، وبينما تتجول داخل بهو استقبال الخاص بالمدرسة في طليلطة، إذ لمحت على الأرفف رواية ثلاثية غرناطة، انجذبت إلى الاسم وعلى الفور بادرت إلى تصفحها، لتجد نفسها واقعة في غرام الأحرف والكلمات، تائهة بين المعاني التي تناولتها كاتبتها بعذوبة، ورغم تمكنها من الأسبانية إلا إنها أحبت أن تقرأها في نصها الأصلي بالعربية، فالتحمت معها لأنها كانت قريبة من الأماكن التي تدور فيها أحداث الرواية "يومها ما نمتش إلا لما خلصت جزء كبير"، لتتحول علاقتها برضوى عاشور من أديبة شغوفة بقضايا أمتها إلى أم روحية لها، حسبما تقول لـ"الفجر".

بعد عودتها إلى مصر، رتب لها القدر لقاءات عديدة برضوى عاشور، حيث درست معها مادة النقد الأدبي، التي كان يتوافد عليها الطلاب من كل الأقسام الأخرى "كانت بدون مبالغة من أمتع الأشياء اللي حصلت لي"، فأسلوبها السلس الهادئ وموسوعيتها الكبيرة يجعل الجميع مأخوذين بما تقول، تمنحهم محبتها ووقتها، فيكافئونها بالإنصات والاستماع بشغف.





الانطباع الذي كانت تتركه رضوى عاشور في نفس مها بنهاية كل محاضرة "رغبة في ألا ينتهي هذا اللقاء"، وهو الإحساس ذاته الذي لمسته بين جموع الطلاب، الذين كانوا يتمنون أن يتجمد بهم الزمن عند هذه اللحظة وألا يغادروا القاعة أبدًا "كانت شخص يغمرك بلطفه"، وفي نفس الوقت لا تترك الأمور تمضي على عواهنها، تستمع إلى من يتحدث إليها باهتمام كبير، ولا تسمح له بالانصراف عنها إلا بعدما يتأكد لها أنها استطاعت أن تعطيه كل ما أراد وأكثر.

عقب أحد المحاضرات توجهت الباحثة في الأدب الأسباني إلى مكتبها، من أجل تعرض عليها فكرة مشروع يتضمن تأسيس اتحاد كتاب مستقل، كانت هي المرة الأولى والوحيدة التي تحدثت إليها بشكل شخصي، لكنها وجدت في حديثها ألفة وحميمية "كانت طول الوقت عاوزة تسمع"، فتركت لها الفرصة كاملة كي تعرض فكرتها وتصورها وآلية تنفيذها، وبعد مدة استأذنتها مغادرة لأمر ما، وعندما عادت وجدتها قد انصرفت نظرًا لأن مها كانت تقطع مسافة طويلة من بيتها في الإسكندرية إلى القاهرة حيث جامعة عين شمس، لم تترك رضوى الفرصة ووجهت له اللوم فيما بعد لأنها لم تعلمها بأنها قادمة من مدينة أخرى "قالت ما عرفتنيش ليه إنك ضيفة"، تعتبرها شخصية الاختلاف والكرم، يتجاوزها التعالي والعنجهية التي من الممكن أن يُصاب بها من هم في مكانها.





من بين كل الشخصيات التي كتبت عنها رضوى، تجد مها نفسها في مريمة بطلة ثلاثية غرناطة، فهي امرأة عنيدة، ترى أنه من الواجب عليها أن تقاتل طوال الوقت من أجل أن تحيا، تقف كثيرًا أمام مشهد في الرواية لأحد الأطفال الذي أخطأ وتكلم العربية أمام الجنود المستعمرين، وقتها كاد أن يفقد حياته لولا تدخل مريمة، حيث لطمته على خده كي تنقذ حياته "تريد أن تكون موجود بأي ثمن وهكذا أنا"، أحبت أيضًا مليكة التي انشغلت بقضايا الوجود والبحث عن معنى الحياة، فانصرفت إلى علم تشريح الإنسان، لذا ترى فيها "نبتة زُرعت فينا جميعًا".

كان أدب رضوى عاشور بالنسبة لها فلسفيًا تاريخيًا، يحمل أوجه واقعية، محشودًا داخل نماذج إنسانية تستمده رضوى من حياة البشر العاديين، دائمة الطرح للقضايا التي تشكل الذاكرة الجمعية والهوية التي يتقاسمها الجميع، كذلك لم تخص المرأة بأدب وحدها لأنها كانت تتحدث في الفضاء العام، تسأل نفسها طوال الوقت "هل كنت أكتب عن غرناطة من أجل أن أعبر إلى فلسطين"، وهو ما تحقق في الطنطورية بنص يتمثل لـ"مها" كواحد من أجمل النصوص التي تتحدث عن القضية الفلسطينية وحالة الاغتراب دون عاطفة غالبة أو إسهاب ممل، في أسلوب تصفه بالعبقرية الأدبية.





تعتبر مها أن رضوى كتبت أدبًا يشبهها، لأنه نابع من تجربة حياتية تماثل في تفاصيلها الظروف التي تعيشها في الوقت الحالي فتوحدت مع كل ما كتبته، حيث فرض الشتات العائلي على رضوى أن تكون أمًا لطفل من أب فلسطيني، كان يجمع ثلاثتهم لقاءات قصيرة على فترات متباعدة، عندما تتذكر التجربة القاسية التي عبرتها رضوى وحدها، تهون الأمور كثيرًا في نظرها، وتصبح أكثر قدرة على التحمل والتجاوز.

الليلة التي رحلت فيها صاحبة الطنطورية، هي الليلة التي أصبحت فيها مها امرأة وحيدة "لا يمكن أن أنساها أبدًا لأن حياتي بعدها تغيرت تمامًا"، بوفاتها أدركت أن الإنسان لا يملك كثيرًا من الوقت، لذا يتحتم عليه أن يعمل من أجل اللحظة الأخيرة التي يصير فيها وحيدًا إلا من نفسه، لم يعد يشغلها الأثر كثيرًا، فما يهمها هو أن تفعل ما يتوجب عليها فعله، وهو ما يتمثل لها في الكتابة كما فعلت رضوى؛ حين رحلت وتركت خلفها إرثًا أدبيًا "أكبر بكثير مما يمكن أن يتركه الأموات للأحياء".




حالة الحزن التي أعقبت اختفاء رضوى من عالم مها، ما تزال تلازمها حتى الآن بشكل يعجز معه كل محبوها عن تخطيها، لكنهم استطاعوا أن يحصلوا على وجودها معهم بشكل أكثر كثافة وحضورًا، وذلك من خلال ما يُطبع لها من كتب بين الحين والآخر، والتذكير الدائم بنصوصها وعباراتها التي تصف بدقة ما يختلج في نفوس القراء من أفكار ومشاعر، فتحولت بالنسبة لها إلى أيقونة "والأيقونات لا تموت".