"سعاة القسم الطيبين".. فصل من حكاية الدادة رضا وعمّ أحمد مع رضوى عاشور
في كل مرة تدخل الدادة "رضا" إلى الحجرة الملاصقة للسلم الجانبي بقسم اللغة الإنجليزية، تتذكر رضوى عاشور، تقلب عينيها في أرجاء الغرفة، تتمتم في سرها ببعض آيات القرآن والفاتحة وتختتمها بالدعاء لها بالرحمة، فيما تتداعى إلى ذهنها مئات المواقف التي تربطها بها، وكلما اشتد بها الشوق تسردها على من حولها خوفًا من أن يلتهمها شبح النسيان، وحفظًا لسيرتها التي لن تتكرر "كانت حنينة وحاسة بينا"، تقول رضا لـ"الفجر".
بدأت رضا، في العقد الرابع من العمر، عملها في القسم قبل أن تغادره رضوى عاشور بـ5 سنوات، وعلى الرغم من أنها تعتبرها مدة قصيرة مقارنة بالعمال الآخرين مثل "أم تامر" و"عم أحمد"؛ سعاة القسم الطيبين كما أطلقت عليهم رضوى، إلا إن الفترة في حسابها الشخصي تتجاوز عشرات السنين، تنظر فيما حولها فتجد أن الدكتورة قد رحلت لكن مواقفهما معًا مال زالت تنبض بالحياة، فتحكي أنه في كل مرة كانت رضوى تدخل إلى مكتبها وتجده نظيفًا ومرتبًا لا تنسى أن توجه لها الشكر بعبارات تقع أسيرة في رقتها "لو أنت تعبان ومهدود حيلك تبقى مبسوط"، كما كانت شديدة الحرص على الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، ففي أوقات الحفلات التي يعقدها القسم، كانت تطلب مشروبات ومأكولات لهم كما الحضور "لما أسألها الزيادة لمين يا دكتور تقول ليكِ"، وهو أمر أصبح تراه نادر الحدوث في الوقت الحالي.
لم تلمس السيدة الأربعينية إنسانية رضوى عاشور مع عمال وسعاة القسم فحسب، بل كان يقفز أمامها داخل المدرجات في أسلوب تعاملها مع الطلبة "كانت تحب تسع لهم"، ولو حدث وجاء أحدهم متأخرًا لا تسرع إلى التقريع والتعنيف، بل تسمح له بالدخول، ولو تكرر الأمر أكثر من مرة ولوحظ عليه التغيير تنتحي به جانبًا بعد المحاضرة وتسمع له، وفي حال وجدت في ظروفه ما يعيقه عن الحضور في الميعاد المحدد تقوم بتغييره لاحقًا بما يناسب الجميع "دا مش بيحصل دلوقت"، وتقول إن ن هذه الرقة تتحول إلى عتاب إذا ما حاول أحد من الطلاب أن يشتري لها شيئًا من الكانتين، كانت ترفض الأمر بشدة "هي كانت تتدي ما تاخدش".
طاقة الحب الكبيرة داخل رضوى عاشور، كانت تتحول إلى غضب محتدم عند رؤيتها لأحد يستغل وضعه الوظيفي أو الاجتماعي في إهانة إنسان آخر، هذا الأمر ظهر لـ"رضا"، عندما عنفها أحد العمال القدامى، خرجت رضوى من مكتبها على الفور، وجدت أمامها إنسانة أخرى قادرة على الزجر والغضب، ورفع الصوت بتعنيف العامل على أسلوبه معها "قالت له دي رأسها برأسك هي عاملة وأنت عامل"، حاولت رضا التهدئة من حدة الموقف "قلت لها خلاص يا دكتورة حصل خير"، أومأت إليها بالسكوت لتواصل كلامها "دا احترام واجب على الكل لأننا كلنا بنكمل بعض". بعدما سمعت رضا نبرة الغضب في كلام رضوى دفاعًا عنها، لم تشعر بنفسها إلا والدموع تنهمر من عينيها "في اللحظة دي بيكون نفسي أحضنها وأقولها شكرا إنك بتدافعي عني"، فيما بع طلبت منها رضا ذلك، لتقوم على الفور من مكتبها وتحتضنها لدقائق مع الربت الشديد على كتفها؛ الذي حمل أعباء القسم لسنوات عديدة.
طوال الوقت ظلت رضا تتعامل مع رضوى كأستاذة في القسم الذي تقوم على نظافته، ولم تدرك شهرتها الأدبية وعطائها الأدبي، إلا بعد وفاتها في حفل التأبين الذي أقامته الكلية، في حضور زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، تحكي كيف كان يتكلم عنها بحزن وعن افتقاده لها، كصديقة قبل أن تكون زوجة "خلى كل الناس عيطت".
في كل مرة يأتي اسم "رضوى عاشور" أمام "عم أحمد" أحد سعاة القسم، حتى يتذكر على الفور الأيام الأخيرة لها مع المرض، ينشط عقله ويعقد مقارنة بين الجسد القوي الذي ظل معهم لسنوات يبادرهم بالتحية والسلام وينثر بينهم الحب، وبين الجسد الواهن الذي ظل يقاوم المرض لآخر لحظة "كانت خست وملامحها اتغيرت شوية"، كما لم تعد تقوى على الكلام والحركة كثيرًا، فيحكي أنها كانت تبذل جهدًا مضاعفًا من أجل الحفاظ على المحاضرة، وبمجرد انتهائها تهرع على الفور إلى مكتبها في انتظار ابنها، والذي لم يظهر إلا في تلك الفترة، حيث كانت تغادر مستندة عليه.
كان خبر رحيلها صادمًا للرجل، حيث كان يمني نفسه أن تنجو من هذا المرض كما نجا منه أحد موظفي أمن الجامعة بعدما قام بإجراء عملية جراحية استأصلوا له الجزء المسرطن، غلب الحزن الجميع، ذابوا في موجة من الأسى والفقد "حسينا كأنها واحدة من عيلتنا". وفي الفترة التي أعقبت ذلك كان بعض الطلبة الذين لم يعرفوا بوفاتها، يتوافدون على القسم ليستطلعوا أخبارها، وعندما يعرفون بما حدث يدخلون في نوبة بكاء، يشاركهم فيها كل الحضور.