"صندوق مريمة".. سارة قويسي تضع حكايات رضوى عاشور في منديل معقود

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


تعتبر "سارة قويسي" يوم مناقشتها لرسالة الماجستير، من الأيام المحورية في حياتها، ليس لأنها درات حول الإنسانة الأقرب إلى قلبها وحصدت بها إعجاب اللجنة وثنائهم، لكن يظل مرتبطًا معها أيضًا بالهدية التي أعطتها لها إحدى صديقاتها، وهي عبارة عن صندوق نبيتي اللون، بداخله وضعت رسالة بها كثير من الحب، تمنت لها أن يكون لها كصندوق مريمة ويرافقها طيلة حياتها.

فيما بعد توقفت سارة كثيرًا أمام الصندوق، كل فترة تعود إليه وتتأمله، تسأل نفسها "هل يكون الصندوق كمنديلي المعقود"، إلى أن طلب منها أحد الأساتذة أن تخط كتابًا عن رضوى عاشور، يتضمن امتداد حكايتها، والذكريات الجميلة التي خالطتها وهي تقرأ رواياتها، رغبتها الملحة في لقائها، ومحاولة التعامل مرة أخرى مع الرحيل "بدلًا من أحكي معها حكيت عنها للجميع"، وكانت مريمة هي إلى الأقرب إلى قلبها، حيث رأت فيها رضوى التي رحلت بشكل مفاجئ وتركتها وحيدة.





الفترة التي أحاطت بسارة وهي تكتب "صندق مريمة" كانت صعبة ومرهقة، فوالدها كان قد خرج لتوه من عملية جراحية خطيرة عاش بعدها بـ30% من جهازه الهضمي، ظهرت أمامها رضوى بابتسامتها الوقورة وهي تقاوم هي الأخرى المرض دون أن تفقد من روحها المتفائلة شيئًا، تذكرت فصولها الطويلة التي روت فيها  الرحلة الشاقة "كانت متشابهة تقريبًا في كل تفاصيلها"، رأت أن في الكتابة محاولة جديدة للبحث عن الأمل والحياة، ورتق ما فقدته من أشياء، كما كانت تهرب من الوحدة والموت الذي بات يلوح لها في الأفق مرة أخرى.

من الإسكندرية حيث تقطن سارة، بدأت علاقتها برضوى عاشور والتي لم تتجاوز دفتي الكتاب، حيث لم يكتب لها مقابلتها وجهًا لوجه، لكن قراءاتها العديدة لأعمالها خلقت بينهما حالة من الألفة والمحبة، فكلما شعرت بضبابية الرؤية وتشويشها، تذهب إلى أي من كتبها فلا تخرج إلا وقد أعطتها رضوى حلولًا أو تستلهم منها الأمل، أن كل الأمور ستصير على ما يرام.

قبل رضوى عاشور، كانت الشابة تعتقد أن وجود الأدب النسائي ضئيلًا داخل النصوص العربية، لكن بعد فترة من الغوص في كتاباتها وجدت أنها لم تهمل أبدًا قضايا المرأة "هي كاتبة في المقام الأول وعين الكاتب عين الرصد"، يقوم خلالها بتشريح المجتمع داخل النص، والتعامل معه ككلتة واحدة وليس أجزاء منفرطة، لذا اعتمدت أن يكون في كل عمل لها امرأة تقود دفة الأحداث بشجاعة مقاومة في ذلك ظروف أشد وطأة، فأعطت لها الأمل وكثيرًا من الثقة التي ظلت لسنوات شحيحة داخل النصوص العربية.





أحبت الأجيال الجديدة السيدة راء غمروا كتابتها باهتمام كبير، أصبح لها حضور قوي في قلوب آلاف القراء في مصر والوطن العربي، والسبب ترده قويسي إلى "قربها منا كان الأهم، تصديقها لأحلامنا وحديثها عنا"، كما أنها كانت دائمة العودة إلى الماضي القريب والبعيد، للبحث عن أسباب الهزيمة، منشغلة بأحداث التاريخ وشخوصه التي تتشابه حكاياتهم مع عموم الشباب الحالي، فكان ذلك الحد الفاصل الذي قلص المسافة بينها وبينهم فأصبحت بالنسبة لهم "الأم والسيدة التي تعرف طرقها للوصول".

تعتبر الباحثة الأدبية أن رضوى هي من صنعتها حينما وضعها القدر في طريقها، تسعد كثيرًا حينما تتذكر المرة التي ناداها فيها أحد الشعراء يا بنت رضوى عاشور "لوهلة توقف الزمن عن الدوران وأحسست أني الأقرب لها"، تطرب كثيرًا لهذا اللقب، وتتمنى دائمًا أن تكون جديرة بهذا الشرف.





انجذبت سارة دائمًا إلى القضايا التي عنيت بها رضوى، لأنها كانت دائمة الحديث عن الوطن وأوجاعه وآلامه، ليست مصر وحدها بل كل البلدان العربية المثقلة بالآلام من آثار الاستعمار، فتفاجئت الشابة بمذبحة صبرا وشاتيلا التي حدثت أثناء الحرب الأهلية في لبنان، وتناولتها رضوى في رواية الطنطورية "كنت أحاول دائمًا البحث عن كيفية أن يحدث ذلك"، كما أحبت كل شخصيات رضوى، مثل سليمة ومريمة وندى وشمس ورقية وسلمى وخديجة وسوسن وشجر، تجد نفسها أكثر شبهًا بمريمة، التي شاء لها القدر أن تكن وحيدة "ورغم ذلك كانت تقاوم بالحيلة والحظ مرة والحب مرات أخرى"، لكنها ظلت صامدة ومقاومة إلى النهاية، فاستحقت أن تكون بلا وحشة حتى وهي في قبرها.

لم تكتف سارة بـ"صندوق مريمة" والذي أحبت أن يحمل تفاصيل متخيلة للقاء لم يتحقق، بل تناولت أيضًا أدب صاحبة ثلاثية غرناطة بالبحث والدراسة، حيث كانت رسالتها للماجستير عن الخطاب السردي المعاصر في الراوية النسائية، وأخذت روايات رضوى عاشور نموذجًا، وقبلها كانت تخوض نقاشات مطولة مع أستاذها عن موضوع الرسالة، إلى أن انتهى بها المطاف إلى أدب السيدة "خلال وقت قصير كنت قد كتبت خطة البحث واتفقت مع أستاذ المادة على  كافة التفاصيل".




قبل الوفاة بأكثر من أسبوعين، كانت سارة تناقش دراستها عن أدب رضوى أمام لجنة التحكيم، حاولت الوصول لها كي تدعوها للحضور لكنها أحجمت لمرضها الشديد، اعتبرت الشابة الثلاثينية أن يوم المناقشة على ثقله حمل لها الكثير من المفاجئات، فقد أعلنت الجامعة عن مولد باحثة جديدة "هي أنا"، توقفت منبهرة أمام كلماتهم "كنت أحاول أن أتبين أنها موجهة لي وحدي"، كما انهالت عليها الكثير من الأسئلة التي تحوم مستطلعة عن رضوى عاشور وحالتها الصحية.

كانت تتوقع أن تمر فتر مرض رضوى بهدوء، وتعود بعدها أقوى كما اعتادت، لكن خاب رهانها هذه المرة وفوجئت في نهاية الشهر بخبر الوفاة، انهارت أمامه سارة، شعرت أنها فقدت والدتها مرة أخرى، حيث كانت تعد نفسها لمقابلتها وتحدثها عن الدراسة التي أجرتها عنها "لكني لم أمنح الفرصة"، لفترة لاحقة ظلت سارة تبكي وتعيد الكرة كلما تذكرتها، فصار عالمها موحشًا بدون رضوى، وتتمنى لها "راحة بلا وحشة".