تركت الطب من أجل الأدب.. رحلة "مها سلام" من أروقة المستشفى لمدرج رضوى عاشور

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


في كل مرة ترجع الدكتورة "مها سلام" بالذاكرة إلى الوراء؛ تجد نفسها أمام اللحظة التي قررت أن تترك فيها الطب، متجهة صوب كلية الآداب بجامعة عين شمس، لا يزايلها أي إحساس بالندم، كل مرة تؤكد لنفسها ولمن حولها أن تلك الخطوة كان يجب أن تحدث من البداية، وأن ما فعلته ما هو إلا تصحيح مسار، لأنها أرادت أن يأخذ شغفها بالأدب الإنجليزي معنًا آخر غير الهواية التي تفعلها وقت أن تجد نفسها حرة من مذاكرة الطب المرهقة، وأن تثقل حبها بالدراسة المعمقة.





في الوقت الذي اتهم فيه الجميع الدكتورة مها بعدم محالفة الصواب لها في هذا القرار "قالوا لي دا تضييع وقت على اعتبار إني خرجية مدارس لغات". هنا ظهرت رضوى عاشور كأم تحتوي جرائتها وشجاعتها، وكأستاذة على استعداد لتقديم النصائح والتوجيهات لها على الدوام، وكلما واتتها الفرص لا تخفي عن طالبتها سعادتها البالغة بالقرار الذي تحدت به الجميع، ومدى قابليتها على التكيف مع مجال جديد اختارته بنفسها، الأمر الذي جعلها تحوز اهتمام أستاذتها الراحلة "كانت تقول لي كونك بدأت دراسة وأنت ناضجة فتقدري تحققي حاجات كتير بشكل أسرع"، بهذه الكلمات كانت تتعمق بداخلها مساحة الحب والتعلق، يحاوطها الرغبة الملحة في أن تكون جديرة بكلام أستاذتها.

قبل أن تلتحق سلام بكلية الآداب لم تكن تعرف أن الحصول على الماجستير يقتضي المرور بسني الدارسة الأربعة، لكنها لم تحزن على السنوات المهدرة والتي تعود فيها طالبة تتشارك المقاعد مع رفقائها الجدد، لسنوات طويلة لاحقة ستظل ممتنة لذلك، لأنه أعطاها فرصة أخرى كي تتعرف أكثر على معالم الأدب الإنجليزي، والأهم أنها ستجلس أطول مدة ممكنة مستمعة لرضوى عاشور وهي تشرح لهم الأدب المقارن، وتستمع لها بشغف وإنصات، وتحكي أن محاضرات رضوى كانت دائمًا ما تكون بعد الظهر، وتمتد إلى أكثر من 4 ساعات أحيانًا لا يرافقهم فيها الملل ولو للحظة "الساعة معاها كانت بـ100 ساعة، ما أعرفش كانوا بيمروا إزاي"، تطرح السؤال بدهشة يخالطها بالحنين.





اكتست علاقة أستاذة الأدب الإنجليزي برضوى عاشور بطابع خاص، فقلبها كما باب مكتبها مشرع على الداوم أمام طلابها ومحبيها، لأنها لا تضع علاقتها معهم في إطار من الجدية والصرامة، فلم تكن تجد حساسية في أن تعير طلابها كتبها الخاصة، وإذا شعرت لوهلة أنها ليست على المستوى الذي يؤهلها لأن تبدي نصيحة أو توجيهًا يتعلق ببحث أو دراسة، تحيل طالبها دون أي خجل إلى أستاذ آخر، تضاعف هذا المعنى بالنسبة لسلام، عندما طلبت أن تشرف رضوى على رسالتيها في الماجستير والدكتوراة. ولأنها بدأت رحلتها مع دراسة الأدب الإنجليزي متأخرًا، وجاء طلبها في الوقت الذي تملتئ فيها قائمة رضوى عاشور بالطلاب الباحثين، فخافت عليها الانتظار أكثر فنصحتها بالمتابعة مع أستاذ آخر، مع تزويدها بالنصائح والتوجيهات وقت ما تحتاج "كانت بتؤثر الغير على نفسها، مترفعة بشكل كبير عن كل الصغائر".





أحبت الدكتورة مها الأدب الإنجليزي، كان هو السبب في أن تترك سبع سنوات من دراسة الطب وتعرض بوجهها عن التكليف الذي أتاها على الفور، لكنها لم تندم لأن تجربة الدراسة مع صاحبة الطنطورية كان لها طابع خاص، جعلها تدرك القيمة الحقيقية للأدب الذي لا يجب أن يكون منفصلًا عن الواقع، بل مشتبكًا معه على الدوام "كانت مؤمنة إنه مش للتسلية والمتعة"، فتحكي أن رضوى كانت تؤمن بالكتابة إلى أبعد مدى "كانت بتقول بينصحوني بعد ما أطلع على المعاش أتفرغ للكتابة" في حين تؤكد أن رضوى كانت ترى في وجودها كأستاذة وسط مئات من الأجيال الجديدة لا يقل في نظرها نبلًا وشرفًا عن الكتابة.

كان لرضوى عاشور الفضل في إدخال مادة الأدب الأفروأميركي إلى الجامعات المصرية، وكان السبق في ذلك لقسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس "دا خلانا نعرف إن المهشمين في العالم كله قصتهم واحدة"، وهو ما يتلاقى في منطقة واحدة مع فكرة كتابها الجديد "لكل المقهورين أجنحة"، فمن خلال ذلك ترى سلام أن كل المشمين والمقهورين في العالم وعلى مدار العصور يجمعهم دائمًا أمل واحد وهو التخلص من الظلم الذي يُمارس ضدهم، وهو حلم من الممكن أن يتحقق على طريقة الطيور عندما تفرد أجنحتها وتتمايل مع دفقات الهواء.





الغالب في كل روايات رضوى عاشور، أنها دائمًا ما تُحضر معاني الانتصار بقوة داخل النص دون تجاوز الحد الأخلاقي المسموح، فتحكي مها أن رضوى روت لهم كواليس كتابة روايتها أطياف والتي حوت بعضًا من سيرتها الذاتية "وأنا بكتب كنت بتخيل نفسي واقفة في المدرج"، الأمر الذي كان يدفعها أن تتحرى الدقة في اختيار الكلمات والمعاني، لا تخدش بها حياءً أو تشعرها قبل القارئ بالخجل من نفسها "كان بيهمها إنها تكون تربوية بقدر ما هي أديبة وموهوبة"، لذا لم تلمس أي اختلاف بين طباع رضوى في المدرج وبين رهافتها وتماهيها بين السطور "هو نفس الصوت اللي بييجي لي وأنا بقرأ رواياتها".

درست رضوى عاشور الإنجليزية وآدابها لكنها ظلت مخلصة للغتها الأصلية وجذورها العربية والفرعونية، كان ذلك يدفعها في كثير من الأحيان لأن "توقف المحاضرة وتتكلم بالعربية"، ولم يكن ذلك لعجز منها وإنما تأكيدًا على هويتها التي لم تنفصل عنها أبدًا، حتى وإن كان مجال عملها يقتضي التعامل بلغة مغايرة، كما لم يمنعها ذلك في أن تكتب أدبًا نالت به محبة الجميع وأفسح لنفسه طريقًا في قلوب القراء، الأمر الذي تراه سلام غاية في الصعوبة.

أحبت رضوى الماضي كانت دائمة التشبث بأحداثه وذكرياته، لذا حملت بعض رواياتها أحداثًا تاريخية أخضعتها لميزانها الأدبي الدقيق، وهو ما ترده الدكتورة مها إلى نظرية المادية الثقافية أو التاريخية الجديدة، والتي يستخدمها الكثير من الكتاب الأوروبيين "بتعتمد على إنها ما تفصلش النص عن سياقه التاريخي"، وتقول إن رضوى عاشور لم يكن يهمها كثيرًا المدارس النسوية في الكتابة كما يتصور البعض، حيث كانت تتعامل على إنها "كائن بشري لما بكتب مش بصفتي امرأة لكن بصفتي إنسانة"، والسبب كما تفسره تلميذتها، أنها كانت تكتب تحت ظرف ما في فترة من الزمن تحاول جاهدة أن يكون لها تأثيرًا فيها.






لم تنقطع العلاقة بين مها سلام ورضوى عاشور، ظل حبل الود بينهما ممدودًا، أوصلته أستاذة الأدب بالدراسات التي تقوم بها باستمرار عن أدب السيدة راء، كان آخرها بحث عن رواية قطعة من أوروبا، حيث عقدت فيها مقارنة بين الصورة التي وضعتها رضوى عن القاهرة على لسان الناظر في تلك الحقبة وبين ما قاله اللورد كرومر في كتابه، تتسع مساحة التذكر مع الباحثين فتوجههم أحيانًا إلى الاستعانة برواياتها، ومع الطلاب كلما سنحت الفرصة، فهي تحب أن يكون لها في غيابها حضور، وكلما جرى الحديث بين الأساتذة والمعيدين ويعرجون على اسم رضوى عاشور، تلوح في الأعين نظرات مفعمة بالحنين والفقد والشوق.

رأت مها في أساتذها دائمًا الشخص الشجاع للغاية والذي لم تتمكن الظروف على شدتها من هزيمته، وفي عز محنتها تغمر الجميع بدعمها ومحبتها "لما تيجي تواسيها تلاقيها هي اللي تواسيك حقيقي لما تفقد أبدًا روحها المرحة المتفائلة"، فلم يوجد اليأس في قاموسها، لأنها كانت تعتبره أقسى عقاب يفرضه الإنسان على نفسه، تقل مها إن السبب في ذلك، عملها بالتدريس واحتكاكها طوال الوقت بالأجيال الجديدة، وهذا في نظرها كافيًا لأن تؤمن بالأمل وألا تفقد الثقة فيه، كما لم تكن تتحمل أن يذكرهم أحد بسوء واستخفاف وترفض التهم التي كانت توجه لهم بسطحية "شباب اليومين دول مش فاهمين"، فكانت تعتبرهم مثل الذهب لا يصدأ أبدًا، قد يعلوه الغبار لكن بمجرد تلميعه يعود متوهجًا وأجمل "كانت معتبرة نفسها أم للجميع مش تميم فقط".