"الشيالين مظلومين من المعلمين".. رزق الفجرية حلم لفقراء المزاد بحلقة السمك في عزبة البرج (معايشة)

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


تدَبَّ الحَياة يوميًا داخل حلقة السمك بعزبة البرج التابعة إلى محافظة دمياط، مع دقات الساعة الثانية صباحًا، لِتعلن بدء نهار جديد على رصيف ميناء الصيد المُكتظ بالتجار والشيالين، الذين يتراصوا على المرسى بانتظار عودة المراكب المُحملة بمختلف أنواع الأسماك، تتعالى الأصوات من كل حدب وصوب، يتقاسم البعض الطعام "يارب إكرمنا برزق الفجرية ومزاد النهاردة يكون فتحة خير علينا مش ظلم زي كل يوم"، عبارة رددها منصور إسماعيل خلف محاورة مع زميله عن معاناتهم وهَدر حقوقهم في شيل الطاولات.







تتوارى خيوط الظلام شيئًا فشيئًا، يشرع صاحب الـ (50 عامًا) في مهمته الذي اعتاد عليها طيلة عشرين سنة، بعدما جاء من محافظة قنا آملاً في تعلم مهنة الصيد- في البلد التي تتميز بوجود أكبر أسطول بحري لصيد الأسماك في مصر-، لكن تباغت من أول يوم بحمل طاولات السمك "مكنش في فرصة غيرها"، ينادي عليه زميله بصوت يجمع بين الصرامة والأسى "المعلم عاوزك"، نهض لإجابته، ثم عاد لاستكمال عمله الشاق، الذي لم يربح منه الكثير. تنافسا مع زملائه قبل بدء المزاد بدقائق، قاطعمها رفع آذان الفجر.







بينما تقدم كريم، بثبات نحو "بوكشات" الأسماك، وسحب نفسًا أخيرًا من سيجارته، مُعلنًا عن بدء المزاد "كأن ابن حلال يصلي على النبي ويفتح باب المزاد"،  لتمتلىء الأرض الشاسعة بأصوات المتداولين عند سماع سعر طاولة الجمبري 1500 جنيها بعدما قدرها صاحب (34 ربيعًا)،  ليرتفع السعر "معانا 1700 في البوكشتين يا معلمين آخر رقم حدش قال حدش زود حلال عليك ياحاج عبده.. نزل يا أنفوشي الباقي"، يتثاءب من حين لآخر، لكن سرعان ما يعود صوته مُجلجِل من جديد، وعينيه تجوب الطاولات متفحصة أنواع السمك "12سنة في الشغلانة دي اتعلمتها من الحاج زغلول اللي كان من أشهر المناديين هنا"، بعدما بحث كثيرًا عن وظيفة حكومية عقب حصوله على دبلوم فني صناعي ولم يسعه الحظ.







يقلب خبير المزاد، بيده السمك ويحركه على بعضه، مازحًا "شغلي زي أحمد زكي في فيلم شادر السمك.. والحمدلله اتجوزت وبربي ولادي الثلاثة منها.. أحسن ما أقعد عاطل"، برغم من التعب العائد عليه يوميًا في نهاية اليوم من شدة الصياح، يقاطعه أحد التجار الذي رسا عليه مزاد طاولات الجمبري الثلاث "والله بروح البيت صوتي خلاص وماشي بالينسون.. واللي يشوفنا يفكر أن الفلوس بنحطها في جيوبنا.. احنا بس نصيبنا على قد صوتنا وياريت يقدر كمان.. والمكسب لصاحب السمك والمراكب" فلكل مركب أو تاجر مسئول عن بيع ما يجود به البحر، بناء على اتفاق مسبق. 






على بعد أمتار هلك أيمن، ما يقرب من عشرين عام في تنظيف الحبار المعروف بـ"السبيط"، لم يتوانَ لمن حوله، مستميتًا لإنهاء مهامه، لاسيما في فصل بيض الكلمار "بفضل قاعد لحد الزباين ما تجبلي الحاجة أنظفها.. وباخد أجرتي بس.. حتى صعب أدوقه.. أصله للناس الغنية اللي قادرة على تمنه.. أخري أشم ريحته", حتى أْباهُ ولم يرض به؛ إلا أن ظروف العزبة-التي بلغ تعداد سكانها حوالى سبعين ألف نسمة وتمتهن أغلبيتهم مهنة الصيد أو ما يتتعلق به مما جعل لمدينة عزبة البرج أهمية كبيرة حيث يوجد بها واحد من أكبر الموانئ لبناء السفن واليخوت السياحية في مصر-، لا تسمح له بالعمل سوى في ذلك، لذا غُلب عليها، بعدما امتهنها من رفيقه الأقدم أبو أحمد، الذي خارت هِمته بعد مرور ما يقرب من خمسين عام في الحلقة "ايدي دابت وقرمشت من المية".






أومأ الرجل الذي كابَد تباريح الحياة، بعينه لتقوس ظهر صديقه، شاردًا لبرهةٍ في مستقبل أبنائه، "نفسي ابني الكبير يكمل تعليمه ويطلع على أي مركب يشتغل ويسافر أوروبا.. شغلنتي مبتأكلش عيش.. بس أحسن من القعدة في البيت ليا"، خاصة أنه عمل في النجارة فترة وغلقت والورشة بعد أن تدهور حال صاحبها، طمَس بعينه مرة أخرى صوب الشباب الواقفون على المركب، ملقيًا السلام عليهم "حالك أحسن منا.. بقالنا 10 أيام في البحر بنصطاد ونشيل السمك.. ونرتاح ساعات ونرجع نكمل.. والإجازة 4 أيام بس.. وكل طالعة برزقها"، ليتوافقوا في طريقه المكسب مع اختلاف قيمتها.






بينما كان محمود رمضان، يقيّد أصناف وطاولات الأسماك التي تعرض في المزاد من داخل حانوت قديم، قبل فتح مزادها، إذ يستيقظ في تمام الساعة الواحدة صباحًا ويظل حتى غلق المزاد، عكس ما كان عليه في السنوات المنصرمة "كنت ببدء من الساعة 12.. لكن دلوقتي الحال تغير والخير قل"، مرجعًا ذلك لارتفاع أسعار تموين المركب "البنزين"، مما أثر على عدد طلوع المراكب "بيجلنا كام نقلة بنبيع اللي نقدر عليه في المزاد واللي بيفضل بنوديه سوق العبور والمحالات في يومها لان مفيش تلاجات هنا نحط فيه الباقي".






وينخرط عبد المغني في مهامه المخوَّلة له، في مصنع الثلج، إذ تنتهي ورديته مع أخر وصول أخر مركب "8 ساعات بقطع الثلج وأوصله بالعامل في المركب.. احنا بالحلقة بنكمل بعض ومفيش حاجة من برة"، يقولها الرجل الخمسيني دون أن يكترث لشدة البرد "جلدنا مات.. وياريت جايب همه". تمر الساعات بطيئة وموحشة عليه ويغلبه النعاس بالتدريج، فيتغلب عليه باحتساء الشاي، برفقة العم طارق-أحد الصيادين والشيالين بالمركب-، الذي أنهكته ليالي الصيد.






اِتسم صاحب (45 عامًا)، بالجد وسط زملائه، لذا عاد مهرولاً إلى عمله، لمساندة رفيقه "على المركب مفيش وقت لدلع.. حتى النوم بقالي سنين بنام تخاطيف.. والبحر عرف عننا كده". يتفق معه العم عيد-أقدم الشيالين- "لو السمك اتأخر شوية بكنس الشادر.. وفي النهاية يومية 40 جنيه.. الشيالين مظلومين من المعلمين ويعتبروا فقراء المزاد.. رغم إنهم من غيرنا يتوهوا ومع ذلك ناخد احنا الملاليم ومعاملة وحشة جدا.. حتى السمك يدونا منه كل سنة مرة".






يتعالى صوت "المنادي" ليحمَي المزاد، تزامنًا مع وصول إحدى سيارات التجار، داخل أزقه جانبية من المرسى، لشراء الجمبري، بعد فرزه واختيار الكمية المناسبة لكل منهم "بنشتري حسب المزاد وللأسف الجمبري بقى مولع.. والطاولة بتصفى على نصها بعد التقشير.. وبنطلع الفرق في التوريد لمطاعم شرم الشيخ والقاهرة"، لينال الشيالين قسطًا من الراحة، ليستأنفوا عملهم مجددًا بعد ساعات "يومنا بيبتدي وينتهي على البحر".