نفتح مذكرات أول رئيس حفائر آثار في مصر.. صديق بتري وأمير الصعيد
الحفائر الأثرية هي البداية دائمًا، فالكشف الأثري صغيرًا كان أو كبيرًا تسبقه عملية معقدة للغاية وهي "الحفر"، والذي يكون على أعماق كبيرة، في قلب الجبال أو وسط البيوت الآهلة، ويبقى رئيس العمال الذي يملك خبرة في مجال الحفائر الأثرية عملة نادرة فعليه قد تعتمد بعثة بكاملها، ولدينا في مصر عائلة لها باع طويل في هذا المجال وهي عائلة الكريتي.
واليوم بين أيدينا قصة أول ريس حفائر في مصر فهو أول من عمل مع فلندرز بتري صاحب أول حفائر أثرية في مصر وفلسطين، وهو الريس محمد الكريتي، يحدثنا عنه أحد أحفاده وهو الدكتور حازم الكريتي مفتش آثار في منطقة سقارة، والذي فتح للفجر مذكرات "الجد الأكبر" -كما يسميه- "الريس محمد عثمان الداودي الكريتي".
وبدأ حديث الدكتور حازم الكريتي خديثه قائلًا إنهم من قبيلة عرب الأمارة في محافظة قنا، والتي تصل بنسبها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولقب العائلة هو الداودي، أما الكريتي فهو لقب اكتسبه جده الأكبر الريس محمد عندما كان يتاجر مع جزيرة كريت ويسافر إليها، فأطلق عليه هذا اللقب الذي عرف به وصار لقبًا عائليًا، أما قبيلة عرب الأمارة التي تنتسب لها العائلة، فهي إشارة لنسبهم لأمير المؤمنين، فكلمة أمارة هي جمع أمير بلهجة الجنوب، وكل فرد من العائلة يحمل لقب أمير.
وأكمل: "ولد الريس محمد في مدينة قفط بمحافظة قنا، وكان هو أول مصري يعمل بمجال الحفر والتنقيب عن الآثار في مصر على الإطلاق، وخرج من تحت يده بعد ذلك العديد من رؤساء الحفائر المهرة، وهو أول "ريس حفائر" يعمل مع عالم الآثار الإنجليزي الشهير فلندرز بتري".
بداية تعرف الريس محمد بعالم الأثار فلندرز بتري
ويحكي الحفيد عن الجد قائلًا: "الريس محمد عثمان الكريتي ذكر في مذكراته عن بداية تعارفه بالعالم فلندرز بتري فيقول، إن بتري عندما جاء لمدينة قفط لأول مرة كان الأهالي يفرون منه، ويمتنعون عن التعامل معه ظنًا منهم أنه تابعًا للجيش البريطاني المحتل خاصة وأن وجهه كان شديد الحمرة كعادة الإنجليز"وكان ذلك في عشرينيات القرن العشرين.
وأكمل: "الريس محمد الكريتي بصحبة أخيه الريس حسن ومحمود عثمان توجه إلى بغرض الشجار معه وطرده شر طرده، ظنًا منهم أيضًا أنه تابعًا للاحتلال البريطاني، ولما سألوه عن سبب مجيئه إلى قفط، قال لهم إنه عالم أثار إنجليزي وليس ضابطًا تابعًا للجيش البريطاني وليس له علاقة من قريب أو من بعيد بالجيش البريطاني بل هو جاء للعمل في مجال الحفائر، وطلب منهم أن يساعدوه ويعملوا معه ويوفروا له عدد من العمال لإنجاز مهامه وكانت هذه هي البداية".
إعداد أول حملة حفائر أثار في مصر
وأشار حازم الكريتي إلى أن الريس محمد بدأ في إعداد العدة لحملة البحث الأولى حيث أحضر عدد من الجمال لحمل الأمتعة إلى منطقة جبانة الشيخ عيضة، والتي تضم مقابر الأهالي التابعة لقرى مركز قفط بمحافظة قنا حاليًا، واستقر بالقرب منها وبدأ العمل هناك برئاسة الريس محمد عثمان الكريتي وإخوته الريس حسن عثمان ومحمود عثمان.
ويذكر الريس الكريتي –والكلام للحفيد- في مذكراته: "أن فريق العمل كان يتكون من حوالي 400 عامل تحت رئاستهم، وأن العالم فلندرز بتري كان يتمتع بخلق وتواضع كبير مع عماله وكان يوفر لهم أشهى أنواع الطعام فذكر أن بتري كان محبًا لأكل اللحم الضأن ولذلك كان من وقت لآخر يقوم بذبح الخراف لإطعام العمال حيث كان فريق منهم يتولى أعمال الطبخ، هذا بالإضافة إلى توفير أنواع أخرى من الطعام تنوعت ما بين الفول والعدس وغيرها من الأكلات المصرية الشهيرة في ذلك الوقت".
عمل مع بتري داخل وخارج مصر
وأكمل: "امتد عمل الحفائر بعد ذلك إلى عدة أماكن أثرية شهيرة أخرى بمصر منها كوم أوشيم بالفيوم والعرابة المدفونة بسوهاج وكذلك ميت رهينة حيث ذكر الريس الكريتي أن بتري كان لديه منزلًا جميلًا داخل المنطقة الأثرية مبنيًا بالطوب اللبن ومازال موجودًا حتى يومنا هذا والذي تحول الآن إلى مخزنًا للآثار بمنطقة آثار ميت رهينة، وكان بتري يصطحب معه الريس الكريتي وإخوته في كل مكان ولا يستطيع الاستغناء عنهم حتى أنه اصطحبهم معه للعمل في فلسطين بمنطقة دير البلح وخان يونس وغيرها من المناطق الأثرية الهامة بفلسطين وكذلك بلاد الشام وكان العمال جميعهم من قفط وأثناء عودتهم من فلسطين وبلاد الشام كانوا يغنون "غربة ومروحين، سليمة يارب سلم"، وأيضًا أغنية "من البعد جينا والله جينا من الغربة جينا والله جينا يارب سلم" وأغنية "الحنة في النخيلة والدخلة في أبو تيج وردوا علينا يا رجالة، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم يارب من الشر سلم"، وكان بتري يردد معهم هذه الأغاني بكل حماسة وفرحة بعماله، ولم يقتصر العمل على فلسطين والشام بل رافقوه في أعماله بالسودان.
وختم الدكتور حازم الكريتي تصريحاته للفجر قائلًا، إن الريس محمد عثمان الكريتي أنجب خمسة من الأبناء الذين أصبحوا أعظم رؤساء الحفائر والترميم في تاريخ مصر بعد ذلك، وامتدت إنجازاتهم من أسوان وحتى الإسكندرية في مجال حفائر وترميم الآثار المصرية القديمة والإسلامية والقبطية واليونانية والرومانية، وأبناؤه هم الريس فهيم الكريتي، الريس محمد الصغير الكريتي، والريس عبده الكريتي، والريس عابدين الكريتي، والريس عبد المتعال الكريتي، ومن أحفاده الريس طلال عبده الكريتي، والريس أحمد عبده الكريتي، وكل منهم له تاريخ عريق حصدوا من خلاله على عدة جوائز عالمية هامة من جميع أقسام الآثار بالجامعات العالمية والمصرية.
فمنهم من حصل على درجة الدكتوراه الفخرية وأوسمة من الطبقة الأولى من أوروبا وأمريكا، والجميع يعلم أشهر الآثار والمقابر والمعابد والمساجد والكنائس الأثرية الهامة في مصر ولا يعلم أن من قام بالكشف ورمم هذه الآثار هم هؤلاء الرؤساء العظام سالفي الذكر، بتاريخ حافل بالإنجازات الهامة للريس محمد عثمان الكريتي وإخوته وأبناءه وأحفاده في خدمة الآثار المصرية بشتى عصورها إلى أن رحل الريس محمد عثمان الكريتي عام 1938م.