د. نصار عبدالله يكتب: أمريكا اللاتينية.. ونجيب محفوظ
عندما قدر لى منذ سنوات أن أزور أمريكا اللاتينية، تبين لى أن النخب المثقفة هناك لاتعرف شيئا عن مصر سوى أنها البلد الذى أنجب كلا من: جمال عبدالناصر ونجيب محفوظ!! بالنسبة لجمال عبدالناصر فقد بهرتهم أفكاره ومحاولاته المستمرة للتصدى للهيمنة الأمريكية وهو انبهار تجاوز النخب المثقفة إلى قطاعات معينة فى القوات المسلحة بحيث أصبح تطهير تلك القوات ممن كانوا وما زالوا إلى الآن يسمونهم بالـ «الضباط الناصريين»، أصبح تطهير القوات المسلحة منهم هو الشغل الشاغل للعديد من الأنظمة الحاكمة فى العديد من بلاد أمريكا اللاتينية، وأما نجيب محفوظ فقد انبهروا به عندما قامت المكسيك بإنتاج فيلم مأخوذ من إحدى رواياته، ثم تضاعف هذا الانبهار عندما ترجمت أعمال محفوظ إلى اللغة الإسبانية، فأقبلوا عليها يلتهمونها التهاما بحيث أصبحت أعماله على مدى أعوام متوالية هى الأعلى توزيعا بين سائر الكتب المترجمة إلى الإسبانية. ولعل ما قالته لى الفنانة والكاتبة السلفادورية عايدة بيرّاجا هو خير تعبير عن الحقيقة السابقة، وعايدة هى فى الأصل مهندسة من السلفادور، لكنها تركت مهنة الهندسة وتفرغت للفن والكتابة والإعلام، هى الآن ممثلة مسرحية ومقدمة برامج تليفزيونية، فضلا عن أنها قبل ذلك شاعرة بديعة، وقد التقيت بها لأول مرة فى مطار العاصمة الكولومبية «بوجوتا»، عندما كنت متوجها إلى مدينة ميدلين لحضور مؤتمر ثقافى وكانت هى متوجهة لنفس المدينة لحضور المؤتمر ذاته!!...وحينما عرفت أننى مصرى تهلل وجهها وشدت على يدى مرحبة وهى تقول: «أنت إذن من بلد نجيب محفوظ»، يالها من مفاجأة رائعة.. ثم تقابلنا بعد ذلك عدة مرات فى ميدلين، وفى كل مرة كانت لا تكف عن إبداء إعجابها بنجيب محفوظ، قالت لى: نحن مواطنو السلفادور، وأعتقد أن الأمر كذلك فى كولومبيا، بل وفى كل بلاد أمريكا اللاتينية، نحن لا نعرف شيئا عن مصر المعاصرة سوى أنها هى التى أنجبت زعيم العرب العظيم جمال عبدالناصر وأديب العرب العظيم نجيب محفوظ،.. بالنسبة لجمال عبدالناصر فإننا أبناء أمريكا اللاتينية منقسمون بشأنه!! بعضنا يحبونه ويعشقونه إلى حد العبادة مثلما يحبون جيفارا، بينما يكرهه بعضنا الآخر كراهية العمى ولا يطيقون ذكر اسمه (أيضا مثل جيفارا) لكن الأمر مختلف بالنسبة لنجيب محفوظ، إذ أننا جميعا بلا استثناء نحبه ونقدره ونعشقه، الذين يحبون عبدالناصر وجيفارا، والذين يكرهونهما، كلا الفريقين يحب نجيب محفوظ!!.. المثقفون والقراء العاديون يعرفون اسمه من خلال الترجمات الإسبانية لأعماله أما عامة الناس فيعرفون اسمه من خلال ذلك الفيلم السينمائى المكسيكى الناجح المأخوذ من أحد أعماله، وبوجه عام فهو فى مقدمة الأدباء المفضلين فى كل أرجاء أمريكا اللاتينية، أما بالنسبة لى شخصيا (والكلام لايزال لعايدة) فهو الكاتب الأول المفضل بلا منازع !!..هل تتصور أننى عندما قرأت الثلاثية فى ترجمتها الإسبانية ظللت بعد ذلك أياما عديدة واقعة فى أسر جوها العام، ظللت أياما أشعر بأننى أعيش فى القاهرة التى لم أرها والتى يستحيل أن أراها على الطبيعة لأنها ببساطة ليست القاهرة الآن ولكنها تلك التى كانت منذ قرن من الزمان، ومع هذا فقد استطاع ذلك العبقرى الفذ أن يستعيدها حية ونابضة فى وجدان واحدة مثلى لا تعرف حرفا واحدا من العربية!، ثم هل تصدق أننى أحسست بالسرور الغامر وأنا أطالع صفحاتها حين اكتشفت أن اسم محبوبة البطل هو عايدة، لقد تملكنى حينها زهو حقيقى وكأننى أنا عايدة بيراجا شخصيا هى التى يتخذ منها كمال عبد الجواد قبلة لأحلامه وينسج حولها تلك الهالة الرومانسية التى تجعل منها شيئا فوق مستوى البشر!!،.. لقد شاهدت أوبرا عايدة أكثر من مرة لكننى لم أشعر بأننى أنتمى إلى بطلتها مثلما أحسست بانتمائى الإنسانى إلى عايدة فى الثلاثية، وإذا جاز لى أن أقارن بين العبقريتين فإن عبقرية محفوظ متفوقة على عبقرية فيردى!!... أيام انعقاد المؤتمر تأكد لى مدى صدق مقولة عايدة بيراجا وهى أن أحدا من الحاضرين من أبناء أمريكا اللاتينية لا يعرف شيئا عن مصر المعاصرة سوى أنها بلد نجيب محفوظ وجمال عبدالناصر، وعندما انتهى المؤتمر وتأهبنا للعودة إلى بلادنا حرص الكثيرون على أن أحمل تحياتهم إلى أديب الإنسانية الكبير، وهكذا عدت إلى القاهرة محملا بالعديد من الرسائل الشفوية والمكتوبة التى نقلتها بدورى إلى أديبنا الكبير، ( وكان وقتها ما زال على قيد الحياة) ولقد كان لتلك الرسائل وقع طيب فى نفسه إذ إنه لم يكن يتصور أن مكانته فى نفوس أبناء أمريكا اللاتينية تنافس، بل ربما تفوق لدى الكثيرين منهم مكانة أديبهم العظيم جارثيا ماركيز.