عادل حمودة يكتب من واشنطن: أمريكا تدين تركيا بإبادة الأرمن ومصر لاتزال تنتظر
مفتى أنقرة يدعو المسلمين إلى مساندة أردوغان مدعيًا أن النبى زاره فى المنام
المسجد كان كاتدرائية مسيحية لمدة 900 سنة والعثمانيون حولوه إلى ساحة للصلاة
السلطات التركية قضت على الأرمن بأبشع الطرق.. إعدام جماعى رميًا بالرصاص.. ذبح بالخناجر.. قتل بالفؤوس.. خنق بالمشانق.. وتفريغ عقول المبدعين من جماجمهم وتقديمها على أطباق كريستال للسلطان كى ينتشى وسط جواريه وغلمانه
مصر من أوائل الدول التى احتضنت الجالية الأرمينية فردوا الدين وعلموا المصريين حرف الخراطة والطباعة والتصوير والمشغولات الذهبية
كان الطريق الجبلى يصعد بنا إلى قمته المدببة التى على ما يبدو أنها جرحت قشرة السماء فانفجرت الأمطار من شرايينها لتسقط فوق رءوسنا غزيرة حتى أغرقتنا تماما.
ولكن ذلك لم يمنع من مواصلة السير بحماس مع مئات العائلات الأرمينية التى جاءت من الشتات (يسمونه هايجان سيبورك) مع أبنائها وأحفادها لوضع زهور على النصب التذكارى للمذبحة أو المجزرة أو المحرقة (يطلقون عليها أجيت) التى راح ضحيتها مليون ونصف المليون إنسان بخطة شيطانية منظمة.
عشت معهم ذلك المشهد الذى لا ينسى فى يوم الذكرى المئوية لتلك الإبادة الجماعية التى مارستها الخلافة العثمانية بدم بارد ضد شعب مسالم موهوب كان عليها ــ حسب الشريعة ــ حمايته لا الإجهاز عليه.
بدأت الجريمة الكبرى (ميتز ياجيم) يوم 24 إبريل عام 1915 حين اعتقلت سلطات الباب العالى فى إسطنبول 250 وجيها أرمينيا يمثلون رءوس العائلات القوية والثرية وقطعت رقابهم.
فى اللحظة نفسها هاجمت كتائب الجيش التركى بيوت الأرمن لتقضى عليهم بأبشع طرق الموت : إعدام جماعى رميا بالرصاص.. ذبح بالخناجر.. قتل بالفؤوس.. خنق فى طوابير طويلة من المشانق.. لعب الركبى بالسيوف لقطع رءوس دفن أصحابها تحت الأرض.. تفريغ عقول المبدعين من جماجمها وتقديمها على أطباق من كريستال للسلطان كى ينتشى وسط جواريه وغلمانه.
ابتكارات تركية فى فنون القسوة أسست مدرسة الإبادة الجماعية التى تعلمت منها ألمانيا النازية وروسيا الستالينية وإسرائيل الصهيونية وبوسنة الصربية فيما بعد.
ولا يمكن إنكار أن الأتراك انتابتهم لحظات قليلة من الرحمة سمحوا فيها بطرد من بقى حيا من الأرمن خارج البلاد دون غذاء أو غطاء أو كساء ليمت بعضهم جوعا أو عطشا أو مرضا وهم فى طريقهم إلى سوريا.
من سوريا انطلق الأرمن إلى عشرين دولة شكلوا فيها جاليات مؤثرة بلغت ثمانية ملايين شخص.. ثلاثة أضعاف من يعيشون فى أرمينيا تقريبا.
كانت مصر من أوائل الدول التى احتضنت الأرمن (عددهم الآن نحو 10 آلاف تقريبا) فردوا الدين إليها وعرفوها على الحرف الدقيقة التى يجيدونها (الخراطة والطباعة والتصوير والمشغولات الذهبية مثلا) وقدموا إليها نجوما فى مجالات مختلفة: صاروخان فى الكاريكاتير وفيروز ونيللى ولبلبة وميمى جمال وأنوشكا فى السينما والغناء وأشود زوبيان فى الفن التشكيلى وقبلهم نوبار باشا أول رئيس وزراء فى مصر.
لكن المهاجرين الأرمن لم ينسوا جرحهم النازف.. بل لم ينس الجرح نفسه وحرص على الاحتفال معهم بعيد ميلاده.. ليس اشتهاء للطعنات التى تلقاها وإنما كى لا يتكرر.
فى ليلة 24 إبريل من كل عام تجلس الجدة لتروى للأحفاد ما حدث وبعد مائة سنة جاءت الأجيال المتتالية معا لتترحم على ضحاياها وسهل ذلك أن بلادهم عادت إليهم بعد أن كانت من نصيب الروس عند تقسيم تركة العثمانيين بعد هزيمتهم فى الحرب العالمية الأولى.
لكن الأهم بالنسبة إليهم كان الاعتراف بدولتهم وبمأساتهم وبعد طول دأب وصبر وعناد نالوا ما أرادوا وهدأ الضحايا فى قبورهم.
بعد أن أدى بابا الفاتيكان فرنسيس الأول بعد القداس فى كاتدرائية القديس بطرس فاجأ العام قائلا: إن المجازر التى ارتكبت إبان السلطة العثمانية بحق الأرمن تعد إبادة.
جاء اعتراف البابا قبل 12 يوما على المئوية مسجلا لأول مرة كلمة إبادة وأضاف : إن أساقفة وكهنة ونساء ورجال مسنين وحتى أطفال ومرضى عزلوا وقتلوا فى حالة تصفية رهيبة وجنونية.. إن إحياء ذكراهم ضرورة وواجب.. عندما لا تكون هناك ذكرى يبقى الجرح مفتوحا.. إخفاء الشر أو إنكاره مثل ترك جرح ينزف.
لم يتوان رأس الكنيسة الكاثوليكية عن دعم مسيحيين أرثوذكس.. ليس من باب العقيدة.. وإنما من باب الإنسانية.
ومن جانبه لبى البابا تواضروس دعوة المئوية ووصل إلى العاصمة بريفان على نفس الطائرة التى حملتنا إلى أرمينيا وشاركنا معا فى ندوة عن كيفية الاستفادة مما حدث لتجنب البشرية مآسى الإبادة الجماعية حضرها رئيس الجمهورية وقتها سيرج سركسيان.
وبعد ثلاثة أيام من وقوع الزلزال الذى أحدثه قرار بابا روما صوت البرلمان الأوروبى بأغلبية ساحقة على قرار يعترف بتعرض الأرمن إلى إبادة جماعية مشيرا إلى أن المذابح التى تعرضوا لها تعتبر الأكثر سوادا فى القرن العشرين ودعا تركيا إلى عدم الاستمرار فى إنكارها وتحمل مسئولية ماضيها والمصالحة معه لو أرادات الانضمام إلى العائلة الأوروبية.
ولكن الرئيس التركى أردوجان غضب من القرار البابوى والقرار الأوروبى واحتد عليهما علنا وإن سبق له أن قدم تعازى بلاده إلى أحفاد الأرمن ولكن السلطات الأرمينية رفضت تعزيته وطالبته بالندم على ما ارتكبت بلاده.
والحقيقة أن أردوجان يؤمن بأن الاعتذار يدين دولة الخلافة التى يريد إحياءها لينصب نفسه إماما وسلطانا على المسلمين فى خمسين دولة كما حدث من قبل.
ولا شك أن ما وصل إليه أردوجان ضاعف من طموحه ونقله من المستوى المحلى إلى المستويين الإقليمى والدولى.
نشأ أردوجان سنة 1954 فى حى قاسم باشا.. أكثر أحياء إسطنبول فقرا.. جاء من الريف سيرا على الأقدام بحثا عن حياة أفضل ولم يجد أمامه سوى بيع السميط قبل أن يأكل عيشه بالقوة البدنية ويشتهر بوصف البلطجى ولولا المدارس الدينية الممولة من أوقاف الأثرياء ما تعلم ولولا فضل عبد الله جول ــ يطالب رقبته الآن ــ لما كانت له قيمة سياسية تذكر.
وبأحلامه التى تخطت الحدود تحول البلطجى الصغير إلى بلطجى كبير.. بعد أن كان يأكل بذراعه أصبح يستولى على أراض مجاورة بجيوشه.. راح يتصرف وكأنه الخليفة المنتظر.. وكان من الطبيعى أن يزعجه إدانة بلاده بجريمة الإبادة الجماعية.. ولكن.. العالم لم يعبأ بشعوره.. وتوالى الاعتراف بالجريمة.. دولة بعد دولة حتى وصل عددها إلى 32 دولة آخرها الولايات المتحدة.
فى ليلة الاحتفال بعيد الهلوين المثير للرعب والمحصن ضد الموت (ليلة 31 أكتوبر) اعترف مجلس النواب الأمريكى بالهولكست الأرمينى وصوت للقرار 405 أعضاء ورفضه 11 عضوا وسبق الكونجرس فى هذه الخطوة المتأخرة سنوات طوال اعتراف 48 ولاية أمريكية به وكانت مبرراتها: حتى لا يتكرر ما حدث.
ومن جديد استشاط أردوجان غضبا وبرر القرار بأنه رد فعل للعملية العسكرية التركية فى شمال سوريا ما جعل الكونجرس يستعد لإصدار حزمة جديدة من العوقبات ضد تركيا لتكف عن بلطجة حاكمها.
ولكن الأسوأ كان رد فعل مفتى أنقرة الشيخ مفعل هزلى الذى هدد بفتح مسجد أيا صوفيا للصلاة.
وأيا صوفيا تعنى باللغة اليونانية الحكمة المقدسة.. كان من قبل كاتدرائية مسيحية على مدى 900 سنة وما أن استولى العثمانيون على السلطة حتى حولوها إلى مسجد صلوا فيه طوال 500 سنة ولكن ما أن جاء أتاتورك بعلمانيته الصارمة حتى حول المكان إلى متحف حفرت على جدرانه آيات من القرآن وفى حجراته آثار مسيحية.
ولابد أن هزلى اسما على مسمى فقد سبق أن أعلن أنه رأى رسول الله فى المنام وطلب منه أن يدعو المسلمين إلى دعم وتأييد أردوجان.
ولكن ما يلفت النظر أن مصر لم تعترف رسميا بمجزرة الأرمن ولم يكف أن يتقدم 336 نائبا فى مجلس النواب لاستصدار قرار رسمى بإدانة الجريمة ومطالبة الأمم المتحدة باتخاذ إجراءات من شأنها عقاب تركيا إذا لم تعوض عائلات الضحايا عما فعلت بهم.
وكان هناك مشروع قرار آخر بمنح المعارض التركى عبد الله جول حق اللجوء السياسى فى مصر ولكن رئيس الحكومة وقتها شريف إسماعيل رد قائلا : إن مصر لم تتلق طلبا من جول للحصول على اللجوء السياسى إليها.
وكان مشروع القرار وراء أول زيارة من نوعها قام بها سفير أرمينيا فى القاهرة أرمين ملكونيان والتقى خلالها برئيس لجنة العلاقات الخارجية وقتها السفير محمد العرابى.
ولا شك أن القرار الأمريكى يعد الأقوى بسبب حجم المصالح العسكرية والاقتصادية والأمنية بين واشنطن وأنقرة.
ولكن على أهمية القرار فإنه جاء بسبب حسابات سياسية وليس لاعتبارات إنسانية كما أن القرار الأوروبى بإدانة تركيا كان مبرره وضع مزيد من العوائق أمام تركيا حتى لا تنضم إلى الاتحاد الأوروبى.
لم يعد شيئا لوجه البشر.
وليس هناك كما يقول الأمريكيون : لا وجبات مجانية.