المقايضة بدلًا من السي في.. "بوست على فيسبوك" يُخرج عبدالرحمن الجعيدي من وحدته
لأكثر من 6 أشهر، كان الشاب عبدالرحمن الجعيدي يعيش وحيدًا بمفرده، وقع فريسة لحالة من الاكتئاب فرضت عليه جوًا من العزلة والبعد عن العالم الخارجي، عاش في دوامة من أسئلة مؤرقة ظل طوال حياته يبحث عنها، فينقب عن الدوافع التي تضطره إلى الاستمرار في منصب لأحد الشركات الكبرى في ماليزيا، وعن المبرر من وجوده وسط الطلاب بأشهر جامعات إنجلترا، يحاول جاهدًا أن يدرك الخيط الدقيق الذي يفصل بين سعى الإنسان لأجل المادة، وبين القيمة التي يريد أن يغرسها فيمن حوله، تراكمت هذه الأشياء بداخله، حتى أسلمته إلى مرحلة كاد معها أن ينهي حياته، لولا "البوست" الذي كتبه على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك.
الأسبوع الماضي، بينما يهم الشاب بالخروج من السينما، خطر له أن يبحث عن عمل، لكن بطريقته المختلفة كما اعتاد أن يفكر دائمًا، حيث كتب أنه يريد عملًا في مجال التدريس أو في إدارة الشركات والمؤسات التعليمية، لكن التقديم لتلك الوظيفة لن يكون عن طريق السيرة الذاتية، بل تكون بنظام المقايضة، من يتح له فرصة للعمل بأي من تلك المجالات، سيكون بإمكانه الحصول على "5 كيلو وقار طازة و3 كيلو سيريديا البحر"، يقوم عبدالرحمن باصطيادهم بنفسه، بحسب ما يقول عبدالرحمن لـ"الفجر".
لاقى البوست الذي نشره الجعيدي تفاعلًا كبيرًا بالشكل الذي فاق توقعاته "جالي أكتر من 3 آلاف كومنت ومئات الرسائل وعشرات التليفونات وعروض وظائف كتير" يقولها الشاب مبتسمًا، فاليوم الذي سبق كتابته لهذا المنشور لم يكن يملك أي شيء، ثم بين ليلة وضحاها يجد نفسه غارقًا بين الكثير من الفرص والعروض، وعلى الرغم من السعادة التي غمرته بعد قراءته للتعليقات، لكن ما أزعجه هو إصرار الكثيرين على ذات المشكلة التي لازمته كثيرًا "كتير بيقول لي بيع سمك بيجيب فلوس أكتر"، حيث لم تكن المادة أبدًا كل همه من وراء سعيه وعمله، فما يشغله أكثر هو القيمة التي يضفيها وجوده، والتغيير الذي من الممكن أن يحدثه داخلهم، من أجل جعل حياتهم أفضل "لو كل الناس اشتغلت في التجارة مين اللي هيفكر يخلي حياة الناس أفضل"، والوسيلة لتحقيق ذلك من وجهة نطره لا تتم إلا من خلال التعليم والوعي.
اعتاد عبدالرحمن أن يفكر دائمًا بطريقة غير اعتيادية، يبحث باستمرار عن الحلول المختلفة، لأنه لا يهوى التقيد بنظام معين سواء في التعليم أو العمل، وهي الحالة التي وُضع فيها منذ أن كان صغيرًا، يحكي الشاب أنه في طفولته الأولى كان انطوائيًا لا يحب الاختلاط بالناس، يجد دائمًا متعته وراحته في البعد عن التجمعات المزدحمة بالأشخاص، يتفرغ أكثر إلى اكتشاف ذاته والعالم من حوله، في حالة شخصها الأطباء أنها أقرب إلى التوحد "علشان كدا ما كنتش بعرف أحفظ بحب أفهم أكتر"، الأمر الذي تسبب له في مشاكل عدة مع مدرسيه، حيث كان يردهقهم بكثرة الأسئلة، ثم رافقته تلك الحالة في كل الأماكن التي عمل بها.
لحظات صعبة ومواقف أكثر حرجًا كان يتعرض لها عبدالرحمن من جانب الكثير من مدرسيه، لكن مشهدًا واحدًا ظل عالقًا بذاكرته لا يستطيع نسيانه ويتشبث بذهنه على الدوام؛ ففي المرحلة الإعدادية بينما يشرح لهم مدرس الرياضيات أحد قوانين حساب الدائرة، أراد عبدالرحمن كعادته أن يستقصي عن السبب من وراء حسابها بتلك الطريقة تحديدًا، فكان الرد قويًا وحازمًا "أنت مفكر نفسك أينشتاين"، مرت تلك الليلة بصعوبة على الطفل الصغير ولم يجافيه النوم، ظل لأكثر من يومين بعدها منتبهًا، مشغولًا بسؤاله، حتى تمكن أخيرًا من الوصول لمراده، فذهب تحدوه الفرحة لمدرسه كي يطلعه على ما وصل إليه، فما كان منه إلا أن ألقى بالكراسة في وجهه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اتهمته المدرسة بالتأخر العقلي، وحرم من دخول امتحان المادة فرسب فيها "أحب وأمتع مادة لقلبي سقطت فيها"، يقولها بنبرة ضاحكة تخالطها الحسرة.
"حابب أثبت للناس كلها إني كنت صح"، منذ هذا اليوم أخذ الجعيدي على عاتقه أن يبرهن لغيره أن محاولته للتفكير بتلك الطريقة لم تكن تأخرًا عقليًا، ولم سوى أمر طبيعي نما داخله وفرض نفسه بقوة على حياته، تحول فيما بعد إلى دافع أكبر منه، أجبره على ترك عمله كمندوب مبيعات لأحد البراندات العالمية، بعد دراسته لهندسة الكمبيوتر بمودرن أكاديمي، وتخليه عن منصب المدير العام بشركة في ماليزيا اختارته إدراتها من بين كل موظفيها القدامى كي يكون مسؤولًا عليهم، فلم يجد في تلك الفرص القيمة الحقيقية التي يريد تركها في هذا العالم، لكنه يحاول اكتشافها من جديد في عيون الأطفال الصغار وعقول الشباب الذين يشقوا طريقهم في الحياة "بحاول أساعدهم إنهم يكتشفوا مهاراتهم وقدراتهم"، يصف اللحظات التي يتواجد فيها بينهم بأنها أسعد أوقاته "ببقى مبسوط وأنا بكتشف مهارة في إنسان ما كنش عنده خلفية عنها".
الأيام الصعبة التي مر بها عبدالرحمن، لم تكن على مستوى بحثه عن ذاته فحسب، بل كانت على الجانب المادي أيضًا، حيث ظل طوال شهر رمضان بالكامل لا يأكل إلا الجبن والعيش "كنت بشتريهم بمقايضة السمك"، لذا لم ترق له فكرة بيعه عندما كتب البوست الشهير، لأن قيمة السمك بالنسبة له تكمن في اللحظات الجميلة التي يقضيها تحت سطح الماء، ويحاول اصطيادهم بطريقة مختلفة وصديقة للبيئة.
"إمتى هتعمل دا عبدالرحمن"، كان هذا السؤال يلح عليه باستمرار، يجده أمامه أينما توجه، حتى قرر في النهاية أن يؤسس مؤسسة تعليمية بشراكة أصدقائه، يسعون من خلالها إلى نشر العلم والمعرفة بطرق غير تقليدية بين الأطفال والشباب، فاستطاعوا من خلالها أن يقيموا مبادرات تجولوا خلالها على أكثر من 20 محافظة في الجمهورية، كانوا يذهبون على مراكز الشباب في القرى النائية ويجمعون القمامة، ثم يقومون بإعادة تدويرها "كنا بنستخدم الحساب والرياضة في دا"، وبإشراك الأطفال كي يتعلموا مهارة استغلال الموارد وتصنيع أشياء مبتكرة منها "دا أحسن مليون مرة من إنه يفضل لساعات قدام كتاب مش بيعلمه حاجة"، كذلك عمل مبادرات تطوعية لمستشفى السرطان والتي كانت من أقرب التجارب إلى قلبه "نتائجها مع الأطفال كانت رائعة"، لكن لم يكتب للفكرة الاستمرار بسبب تأزم الأوضاع المالية، حيث كانت معظم الفعاليات تتم بالمجان، فانصرف أصدقاؤه إلى العمل الثابت، وتركوه وحيدًا في النهاية.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها الشاب العالم ويصرح بأنه مُصابًا الاكتئاب، بعد أن اضطر أن يبتعد عن كل شيء ويذوي بأفكاره بعيدًا حتى يصل إلى مرفأ آمن، يعيد فيه اكتشاف نفسه من جديد، لذا لا يمتن للمنشور على جانب العمل فحسب، بل يعتبره فرصة جعلت الحياة تدب في أوصاله من جديد، بل أن أسلم نفسه لحالة من الاستسلام التام وقع فيها تحت وطأة أفكار انتحارية كانت تراوده باستمرار "حسيت إن ثقتي في نفسي رجعت تاني"، بات يؤمن أن الإنسان في النهاية يحتاج إلى غيره بقدر حاجتهم له، فهو في عوز دائم للدعم والتشجيع والمؤانسة، فيقول إنه يعيش أسعد أيام حياته، لأن إحساس الوحشة والوحدة تبدد ولم يعد موجودًا.
لا يضع الشاب أمام الفرص التي أتته سوى شرط واحد "إن ما يكونش فيه نفسنة بين الناس الموجودة"، لا يعنيه المرتب ولا أي شيء آخر سوى ذلك، فالتجربة الصعبة التي مر بها، ترغمه ألا يتواجد في مكان محاطًا بالروتين اليومي الذي تتولد معه المشاعر السيئة، ويتراجع فيها الإبداع أمام الأفكار التقليدية، لكنه يتعهد أن يعطيه كل وقته وجهده "لأن عندي يقين إن القيمة هي اللي هتجيب كل حاجة"، كما يؤمن أن عامل النجاح، يأتي من إيمان الشخص بذاته وإدراكه لمكامن القوة داخله ومعرفة أهم ما يميزه، لكن القناعة الأثمن بالنسبة له، أن الإنسان لابد وأن يوازن بين العمل وبين رفاهيات الحياة "لأنها مش كلها شغل ومش كلها هزار".