بطرس دانيال يكتب: المحبة رادار القلوب
نقرأ فى نشيد المحبة للقديس بولس هذه الآية المليئة بالمعانى: «فالإيمان والرجاء والمحبة هى الثلاثة الباقية وأعظمها المحبة» (1كورنثوس 13:13). كان يرقد رجل مسن تقى على فراش الموت حيث توافد أقاربه وأصدقاؤه لوداعه، فنظر الرجل إلى أحدهم والابتسامة على وجهه قائلاً له: «قبل حضوركم استقبلت ثلاثة ضيوف لكننى قمتُ بوادع اثنين منهم وداعاً حاراً لا رجعة فيه، لكننى رفضت أن أودّع الثالث، لأننى لا استطيع الاستغناء عنه إلى الأبد». فسأله الضيف: «من هؤلاء الضيوف؟» فابتسم المحتضر مجيباً: «الأول هو «الإيمان»، وقد قمتُ بوداعه قائلاً: «إننى أشكر الله من أجل مرافقتك لى طوال حياتى، ومن خلالك عرفت الله؛ لكنى الآن ذاهب إلى حيث رؤية كل شىء بالعيان، فلستُ محتاجاً بعد إليك! حقاً إنك أتممت مهمتك معى». ثم جاء صديقى الثانى وهو «الرجاء»، فشكرته على مواقفه المخلصة حيث أنقذنى من الفشل واليأس مرات عديدة، ولكننى قلت له: «أنا لم أعد محتاجاً إليك بعد الآن أيها الصديق الأمين، لأننى ذاهبٌ حيثما تتحقق الآمال، وحيثما يصبح الرجاء حقيقة واقعية». أما الصديق الثالث وهو «الحُب»، لقد قلت له: «حقاً كنتَ صديقاً وفياً، جعلتنى بالقرب من الله والناس وملأت رحلة الحياة فرحاً وسلاماً، لكننى لا أستطيع أن أتخلّى عنك أو أتركك أبداً، لذلك يجب أن تأتى معى إلى السماء، فهناك الحُب الحقيقى الكامل والذى يُتوِّج المحبّين! إذاً لا أستطيع أن أقول لك وداعاً». كم هو فقير عالمنا من الحُب نتيجة السعى وراء المادة فقط حتى لو فى سبيل خيانة الأصدقاء والمقرّبين؟! كم من صراعات وحروب وتدمير سببها السعى للحصول على المال؟! لذلك كتب الأديب الشهير باولو أورڤيل محاكاة ساخرة ضد الشيوعية بعنوان: «أنشودة المال»، حتى أنه قام بتغيير بعض الكلمات من نشيد المحبة الشهير للقديس بولس هكذا: «لو تكلمتُ بلغات الناس والملائكة، ولم يكن عندى مال، فما أنا إلا نُحاسٌ يطن أو صنجٌ يَرنّ. وإن لم يكن عندى مال، فما أنا بشىء. المال يتأنى ويرفق، المال لا يعرف الحسد، والمال يعذر كلَّ شىء ويصدّق كل شىء ويرجو كل شىء ويصبر على كل شىء. فالإيمان والرجاء والمال هى الثلاثة الباقية، وأعظمهم المال». هذا النشيد قام بصياغته للأشخاص الذين يجعلون المال إلهاً لهم، حتى لو كان هذا على حساب الفقراء والمحتاجين، أو تدمير العالم وخرابه. للأسف الغالبية العظمى فقدت المعنى الحقيقى للمحبة فى الحياة اليومية، لكن مَنْ يحذف كلمة المحبة من قاموسه الشخصى الذى يحتوى على كلمات لا حصر لها؛ فإنه فقد كل معانى الكلمات الأخرى ولن يصبح لها قيمة بعد الآن. مَنْ فقد لغة المحبة بين الناس، فلن يستطيع أن يقول شيئاً مهما تكلّم كثيراً، لأن حقيقة الإنسان الحُب، ومَنْ يُحب يُجانبه الحق فيما يتفوّه به، ويستطيع أن يكون مؤثراً فيما يقول ويعلّم، ومًنْ يُحب يقدر أن يساعد الآخرين للوقوف على أقدامهم. لذلك يعلّمنا السيد المسيح قائلاً: «الوصية الأولى فى الوصايا كلها هى: إن الربّ إلهنا هو الربّ الأحد، فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك». والثانية هي: «أحبب قريبك حبّك لنفسك»، ولا وصية أخرى أكبر من هاتين» (لو12: 29-31). لذلك لا يستطيع أحدٌ أن يدّعى بأنه تجنّب الآخرين حتى لا يقوم بإيذائهم، وكان يقضى حياته قدر المستطاع فى ممارسة الطقوس والشعائر الدينية المطلوبة منه، لأنه لا يكفى الابتعاد عن الشر والامتناع عن الظلم؛ بل علينا أن نحب من قلبنا ونفسنا وكياننا جميع الناس، فالمحبة هى ينبوع العطاء والسعادة ومَنْ يُحب لن يفعل الشر. ويقول الصحفى على أمين: «تعالوا نظلل قلاعنا بأشجار الحُب، فإننا لم نحصد من أشجار الكراهية إلا الهزيمة والفشل». فالمحبة هى قوة خارقة الطبيعة تبدّل كل شىء إلى الأفضل والأحسن. كما يجب علينا ألا ننتظر بعض المناسبات لنظهر محبتنا للآخرين؛ لكن يجب أن تكون فى كل لحظة، ولا يقل أحدٌ: «أنا أشعر بأننى أحب ذلك الشخص»؛ ولكن الحقيقة والواقع هى أن الآخر يجب أن يشعر بمحبتنا له دون أن نصرّح بذلك، كما يفعل الوالدان اللذان لا يعلنان بالكلام عن محبتهما، ولكنهما يثبتان ذلك بالتضحية والعمل لأبنائهما. ونختم بالقول المأثور: «ليس هناك رادار أقوى من المحبة، ولا عطر أطيب منها، ويخطئ من يقول إن الجَمَال يزول ولكن المحبة تبقى، فالجَمَال لا يزول إلا إذا ذهبت المحبّة».