رامي المتولي يكتب: "ستموت فى العشرين".. كسر تابوهات الدين والجنس والقيود المجتمعية
متابعة رحلة مزمل الشخصية الرئيسية فى فيلم «ستموت فى العشرين» وهو يكبر فى السن ستؤكد على فكرة أن الحرية لا تكتسب ولا تأتى بلا ثمن، الفيلم الذى حصد نجمة الجونة الذهبية فى دورة المهرجان الثالثة كأفضل فيلم روائى طويل وقبله أسد المستقبل من مهرجان فينيسيا وضع مخرجه أمجد أبوالعلا كواحد من أهم الواعدين فى إفريقيا خاصة مع أصالة الفيلم وثرائه من الناحية البصرية، وليس معنى هذا أنه الفيلم الكامل بلا مشاكل أو عناصر ضعف لكن أن تكون هذه المشاكل من مخرج يخوض تجربة العمل الطويل الأول وأن يكون الفيلم نفسه رقم 7 فى تاريخ السينما السودانية هما أمران يجعلان النظرة لمشاكل الفيلم تتضاءل أمام ما يقدمه الفيلم من تفوق بصرى وحرفية فى مناقشة ونقد التابوهات الأساسية فى المنطقة وهى شكل الدين والجنس والقيود المجتمعية.
بذكاء شديد استطاع أمجد المشارك فى التأليف مع يوسف إبراهيم عن أصل أدبى للروائى السودانى حمور زيادة أن يضع المشاهد أمام مقارنة ويدفعه دفعًا للتفكير فى الكثير مما يعتقد السواد الأعظم من الناس أنها ثوابت لا تمس، ما يطرحه الفيلم للنقاش وإعادة التقييم يوازى فى أهميته اعتماد أمجد على الصورة، لتكون وسيلته الأساسية فى التعبير عن أفكاره ورؤيته كصانع سينما شاب، منذ المشهد الافتتاحى الذى يحدد شكل المجتمع الذى يسيطر عليه الموت والسلطة المطلقة لرجال الدين على القرية الصغيرة وقوة التقاليد والعادات المجتمعية فى تشكيل طبيعة البشر فى هذه المنطقة شبه المعزولة الواقعة خارج إطار الزمن والمدنية، الأحياء فيها هم فى الحقيقة أموات أو يتمنون الموت على الرغم مما تمنحه لهم الحياة من فرص للمعيشة.
أول التناقضات التى نصطدم بها هى الطبيعة الساحرة الملهمة التى تعيش فيها القرية، التى توفر فرصة للإبداع والانطلاق فى العادة لكن ليس فى قرية مزمل الوليد الذى حكم عليه بالموت بسبب نبوءة شيخ الدراويش، وبسبب المجتمع المشوه المتناقض وتنمره على الطفل (معتصم راشد) المتفوق المحددة إمكانياته بتنمر زملائه ونظرات الشفقة من الكبار حوله وخذلان أبيه النور (طلال عفيفي) له وتضييق الخناق عليه من قبل أمه سكينة (إسلام مبارك) وحتى مع إثبات تفوقه حسب قواعد القرية وإتمامه حفظ القرآن كاملاً قبل إتمامه العشرين (مصطفى شحاته) يظل منبوذًا وينتصر عليه المتنمر القديم بكل صلافة وينتزع منه حبه الوحيد.
مزمل هو النموذج الذى يسير بين كل هذه المتناقضات والذى يستخدمه أمجد ليوضح الفرق الصارخ فبسبب ظروفه الخاصة التى جعلته شديد التميز فى القرية، إلا أن نفس القرية تعامله بدونية منذ نعومه أظافره يخاف من يوم يأتى ستنتهى فيه حياته بلا سبب سوى نبوءة رجل جعلته الظروف موضوع تقديس واحترام، ليصبح النيل الذى يمر بالقرية وهو الرمز الواضح للحياة والانطلاق الخطر الأكبر فى حياة مزمل يخشى أن يخوضه خوفًا من الهلاك مقله مثل القرية التى هى المرادف للموت والجهل والقسوة فى حياة هذا الشخص الأكثر طهرًا بينهم والذى حسب مقاييسهم بلا خطيئة، مبدأ المقارنات على المستوى البصرى وفى الحوار هما شكل أساسى فى الفيلم أسسه أمجد منذ البداية.
العديد من المقارنات يمكن رصدها على مستوى الرمزية والصورة والحوار، الحاجة نفيسة السيدة العجوز التى تحمل جمل حوارها القليلة مرارة كونها حية عندما تسئل عن أحوالها تجيب بمرارة أنها حية تنتظر الموت، وقرب النهاية ومع اقتراب مزمل من عمر العشرين ودنو أجله حسب النبوءة تمنحه ما يطيب به جسده وكفنه بعد الموت بجملة «صندل حانوتك يا الحزين» المقارنة هنا صارخة كما الحال فى معظم مشاهد الفيلم بين هذه السيدة التى عاشت من العمر الكثير والمتوقع موتها وهى تمنح للشاب المقبل على الحياة ما يطيب به جسده استعدادًا لرحلة الموت مع كونها الوحيدة التى تحافظ وتهتم بالحصان الذى يتحول هو أيضًا لرمز مع دخوله فى مشهد استقبال مزمل لموت سليمان (محمود السرجي) الشخص الوحيد الذى منح له رفاهية الحياة فى قرية الموت، الوحيد الذى منحه فضيلة أن يخطئ ويخرج عن الخط المرسوم له ليصبح إنسانًا، على مستوى الصورة هناك العديد من الأمثلة التى تقود لهذه المقارنات باختزال غير مخل.
أبرز هذه المقارنات تلك التى تعقد لا إراديا بين الرموز الدينية فى القرية وما يمثلونه، كونهم رموز العلم والفضيلة لا يجعلهم كذلك فى الحقيقة ومجرد وضعهم مع مزمل الشخص الطاهر يكشف حقيقتهم، بصريًا يشير أمجد لميول الشيخ الشاب الذى يستمد سلطته من شيخ الدراويش والذى يريد استغلال مزمل جسديًا خلافًا لما هو مفترض أن يكونه، حيث إنه صوفى زاهد فى المتاع الدنيوية يجعله أبعد ما يكون عن هذه الشهوات، شيخ الدراويش نفسه والذى من المفترض أن يكون عالمًا هو الأجهل على الإطلاق باعتماده النبوءة التى دمرت حياة أسرة مزمل، حتى إمام القرية ومعلم القرآن فيها منغلق على نوع معين من العلم ولم يتيح لمزمل فرصة تعلم الحساب، ركز فقط على العلم الدينى متجاهلا ما يعين هذا الطفل على الحياة.
بالتأكيد سيناريو الفيلم يحتوى على الكثير من المشاكل أبرزها رسم الشخصيات، فشخصية الشاب المتنمر وعدو مزمل الأساسى فى القرية لم تبرز بالشكل الكافى ولم يتم استغلالها جيدًا كذلك الطفل المصاب بمتلازمة داون الذى لم يكن هناك داع لوجوده فى شريط الفيلم من الأساس فهو مجرد ديكور لم يستغل، لكن هناك عناصر قوة حتى إن أمجد حملها إلى جانب الصورة والحوار أهمية منها الإضاءة وتوظيفها الجيد وكذلك الأداء التمثيلى وخاصة عند إسلام مبارك وطلال عفيفى صاحب الشخصية الأكثر صعوبة فى الأداء لقلة مشاهدها وغياب الحوار، فقط أداؤه التعبيرى الصامت عن الصدمة والضعف وقلة الحيلة تجاه مصير ابنه، ومحمود السرجى الذى كان على النقيض من طلال تحمل مسئولية أن يظهر انفعالات متعددة وتصاعدا درامى أثر بشكل رئيسى فى سير الأحداث.
الاهتمام الخاص بالصورة والطرح كانا التوجه الأساسى عند المخرج الشاب على الرغم من معرفته بشكل قاطع بحكم خبرته أن الشكل الذى اختاره لفيلمه لن يجعله فيلمًا تجاريًا، فتغليبه للصبغة الفنية سيجعل عمله يذهب لمنطقة «فيلم المهرجانات» حسب التعبير الدارج، لن يحقق أرقامًا قياسية ضخمة فى شباك التذاكر ولن ينافس على لقب الأعلى إيرادًا يوميًا أو سنويًا، ولن تحتسب إيراداته بعوامل التضخم بعد سنوات، لكن سيظل هذا الفيلم علامة فارقة فى السينما بإفريقيا رغم كل شيء، لأنه يعلو عن صراعات تحدث بشكل أسبوعى فى معظم بلدان العالم وينتصر للسينما أكثر من أى شيء حتى مع مشاكله وعناصر الضعف فيه يبدو أقوى من أفلام أخرى بميزانيات إنتاج تتخطى السبعة أصفار، سيظل «ستموت فى العشرين» ملهما كفيلم شاعرى أصيل لمخرج شاب ينتصر للسينما فى أول أعماله الطويلة مع صعوبة هذا الاختيار ونتائجه المعروفة.