فتح مكة – عام 8 هجرية
التزمت قريش بمعاهدة الحديبية لمدة عام وبعض العام، فقد ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء عمرة القضاء فى العام السابع من الهجرة. لكنها ما لبثت أن نقضت المعاهدة عندما أعانت قبيلة بنى بكر حليفتها على قبيلة خزاعة حليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبت خزاعة من الرسول نصرتها طبقًا للمعاهدة التي بينها وبينه، فوعدهم بالنصر، وبدأ فى الاستعداد لغزو مكة. شعر أبو سفيان زعيم مكة بالخطأ الفاحش الذى وقعوا فيه، فسافر إلى المدينة لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم ولتجديد المعاهدة، فلم يقبل الرسول اعتذاره
. وفى بداية الأسبوع الثاني من شهر رمضان من العام الثامن للهجرة توجه الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مجاهد لفتح مكة، وكان أبو سفيان يتوقع - منذ أن عاد من المدينة دون أن يحقق هدفه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغزو مكة، ولكن لا يعرف متى يقع ذلك، فكان قلقًا ودائمًا يتحسس الأخبار. وفى ليلة من الليالي رأى أبو سفيان نيران جيش النبي التي أوقدها المجاهدون فاستبد به الخوف والهلع، فسمع صوته العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج من مكة من قبل، والتقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، فلما التقى بأبي سفيان أخبره بالجيش القادم لفتح مكة، ولا قبل لهم به، وأخذه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأعل إسلامه، وأعطاه النبي ميزة كبيرة، بناء على اقتراح من العباس بن عبد المطلب، ضمن الإعلان الذى أمره أن يبلغه لأهل مكة: من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دخول مكة بدون قتال، فهي بلد الله الحرام، وأحبُّ بلاد الله إليه، وفيها أهله وذووه، فكانت أوامره صريحة لجيشه، ألا يقاتلوا إلا إذا قوتلوا، وبالفعل دخل الجيش مكة فى العشرين من شهر رمضان دون قتال، إلا مناوشات بسيطة حدثت فى الجهة التي دخلت منها الفرقة التي كان يقودها خالد بن الوليد عند جبل خندمة فقضى عليها خالد، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا منتصرًا، وهى التي طردته قبل ثماني سنوات وتآمرت على حياته، فماذا هو فاعل بهؤلاء الذين عادوه وآذوه أذى شديدًا هو وأصحابه ؟ وهل فكر فى الانتقام منهم ؟
لم يحدث ذلك منه، بل جمعهم بعد أن دخل الكعبة وطاف بها، وكسر أصنامها بيده وهو يتلو: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا. وقال لهم: ما تظنون أنى فاعل بكم ؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وبهذا ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة فى العفو والتسامح عند المقدرة، فلم تحمله نشوة النصر وزهو القدرة على الانتقام ممن أساء إليه، بل نسى كل ما فعلوه معه ومع أصحابه من ألوان العذاب .