د. رشا سمير تكتب: كل عام دراسى وأنتم حالمون
تعودت أن أرقب البشر عن قرب بعين المُبدع، حيث يبدأ الحكى من بين أسماء وأشخاص وأحداث من حولى ومن حولهم حتى تتسع الدائرة لأنسج الروايات من واقع الحياة القريبة.
أرقب منذ فترة سلوك بعض زوجات حُراس العمارات القريبة من بيتى.. فمنهن النظيفة ومنهن الحريصة ومنهن البائسة.. وهنا استوقفتنى حرص بعضهن الشديد فى إرسال أبنائهن للمدرسة وفخرهن الشديد بأنهم سوف يحصلون على شهادة لربما تبتسم لهم الدنيا وتعاملهم برفق أكثر من ذويهم، واستوقفنى أيضا ابنة أحد الحُراس وهى فى الحادية عشرة من عمرها والتى قررت أن تنقطع عن التعليم فجأة بحجة أن (دمه تقيل) وشجعتها والدتها ووالدها لأن بمفهومهم المتواضع الزواج للبنات هو الحل!.
إذن.. التعليم لا علاقة له بالمستوى المادى ولا حتى بالمستوى التعليمى للأهل.. التعليم هو الحُلم.. حُلم يحلمه الصغار والكبار على أمل أن يكون طريقا للوصول لعنان السماء.
تستوقفنى زوجة الحارس الحالمة كل يوم لترجونى لكى أكتب عن مهزلة المدرسة التى يصل عدد الطلاب فى فصلها الواحد إلى مائة طالب أو أكثر، والتى يرسلون فيها الطلاب إلى البيوت كل يوم قبل الظهيرة تحت بند (مش جيتوا وعرفتوا الفصول روحوا بقى!)، والتى يستدرج فيها المدرسون أولياء الأمور إلى الدروس الخصوصية عينى عينك تحت بند (لو عايز ابنك ينجح ادفع بقى!).. للعلم هذه المدرسة فى منطقة راقية بالقاهرة، فما بالنا بالنجوع والكفور!.
نحن أمام معضلة تعليمية بحق.. ظل التعليم فى مصر مفقودا لسنين طويلة حتى جاء محمد على باشا ووضع أساسا للنهوض بالمنظومة وقد كان، على الرغم من أنه كان رجلا يجهل القراءة والكتابة..
ثم تدهورت الأمور على مر الزمان وعدنا إلى المربع صفر من جديد..
أدرك أن هناك جهودا حقيقية تُبذل من أجل تطوير التعليم ولكن.. ربما كانت البوصلة تشير إلى منطقة خاطئة أو ربما كانت العوائق كثيرة، لكن.. مازال أمل الشعب المصرى فى غد أفضل لأبنائه هو الحُلم الوحيد الذى لن يموت أبدا..
هنا أعود إلى التجربة الماليزية من جديد، عل التذكرة تنفع وتصبح عونا لمن يحاولون..
ماليزيا دولة عانت من الاستعمار البريطانى طويلا، ولأن عدد سكان ماليزيا كبير فقد كان الأكيد أن توجه استثماراتها بالدرجة الأولى إلى الثروة البشرية، كما أنها دولة اعتمدت على الزراعة قديما مما جعلها من الدول محدودة الدخل، لذا لزم على المسئولين استخدام التعليم فى الحراك الاقتصادى تحت شعار (ازرع تعليماً قوياً تحصد اقتصاداً قوياً)..
الواقع أن ظروف مصر لا تبتعد كثيرا عن ظروف ماليزيا، والحقيقة أيضا أن هناك قناعة راسخة لدينا أن التعليم هو الحل، ولكن يبدو أن التطبيق متعثر قليلا..
إذن فتكرار الدعوة لا يفسد للود قضية..
يجب أن تكون هناك بعثات للمتفوقين إلى الجامعات الخارجية بهدف نقل حضارة العالم المتقدم إلى المجتمع المصرى مثلما كان يحدث قديما فى مصر، فأغلب رواد الحركة الفكرية والنسوية فى مصر تلقوا التعليم فى جامعات فرنسا وإنجلترا، ونجحوا فى نقل تجاربهم والإستفادة منها.
إقرار الزامية التعليم ومعاقبة الأباء الذين لا يرسلون أبنائهم للمدرسة أمر حتمى لا بديل عنه، يجب تطوير المؤسسات التعليمية كماً وكيفاً واستحداث مشروع المدرسة الذكية، توجيه التعليم إلى الحاجات الحقيقية للدولة بحيث تنسجم التخصصات الجامعية مع متطلبات سوق العمل (كفانا أطباء ومهندسين تكتظ بهم المقاهي!).. عودة اللغة العربية للمدارس والعمل على إجادتها من خلال المهارات الأساسية للغة وهى الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة أمر حتمى لعودة الهوية العربية إلى شبابنا..
تدريس الدين فى المدارس بمضمون العقيدة وأخلاق الأديان وتفسير الآيات القرآنية بعيدا عن الحفظ والترديد الأصم، فالدين ليس بعبع ولا هو دعوة للإرهاب، الدين الحقيقى هو قلب الأخلاق والمجتمعات..
عودة المهارات اليدوية والتجارة والحرف اليدوية والتربية الأسرية إلى أروقة المدارس، فالتعليم ليس أوراقا ودرجات، بل هو مهارات وفنون..
ليست التجربة ماليزية فحسب، بل نجحت اليابان وسنغافورة وفنلندا وبولندا.. وستنجح مصر إن شاء الله..
ستنجح مصر لو أولينا كل طاقاتنا للتعليم.. والنهضة الحقيقية ستتحقق لو أصبح الطفل ذو الأربع سنوات هو الهدف الحقيقى وشغلنا الشاغل..
فى بداية سنة دراسية جديدة مازلت أحلم ولايزال الحُلم متاحا أمام الجميع ومازالت فرصة الدولة تتجدد فى سبتمبر من كل عام حيث يحمل الأطفال حقائبهم المثقلة بالحجارة متكاسلين إلى فصولهم القديمة..
دعونا نحلم أن تلك الصورة سوف تتغير قريبا.. ربما يتحقق الحُلم..