"عودة إلى تكيّة الفقراء".. حكاية تطبيق إلكتروني يُحارب ظاهرة الطعام الفائض
خبرات كثيرة يكتسبها الإنسان بالسفر، تتراكم داخله وتتحول إلى حافز يدفعه إلى تطوير ذاته ومجتمعه؛ لعل أهمها ألا يكون سلبيًا في المواقف التي تستلزم منه ألا يكون كذلك، وهو ما تعلمته الصيدلانية "منة شاهين" من واقع تجربتها في السفر إلى أكثر من 40 دولة عربية وأوروبية، بجانب عيشها في الوقت الحالي بين مصر ودبي وطوكيو، لما تفرضه طبيعة عملها بأحد شركات الدواء العالمية.
عام 2017، بينما كانت منة تتناول طعامها بأحد مطاعم السوشي، إذ وقعت عينُها على عامل يهمّ بإلقاء الطعام المتبقي في سلة القمامة، لم تستطع أن تتمالك نفسها وتدخلت في محاولة منها لإثنائه عن رغبته في التخلص من كميات الطعام الكبيرة "قال سياسة المكان إن الأكل لازم يترمي آخر اليوم"، فعرضت عليه أن تشتريها بنصف الثمن، لكنه كان صارمًا في الالتزام بتعليمات المطعم، ومن هنا بدأت تلح عليها فكرة عمل أبليكيشن "تكية"، لتجميع الفائض من المطاعم والفنادق والسوبرماركت وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين، لتكون أول منصة مصرية تختص بإعادة توزيع فائض الطعام، بحسب ما تقول الشابة الثلاثينية لـ"الفجر".
في الفترة اللاحقة عكفت منة على دراسة المشروع جيدًا ورسم أبعاده وتفاصيله، عاونها في ذلك زوجها -هولندي الجنسية- بقدر ما أسعفته خبرته، ومع بداية عام 2018 شرعت في التنفيذ من خلال اللجوء إلى إحدى شركات البرمجة لتصميم التطبيق "ادتيهم الفكرة وهم بدأوا يشتغلوا عليها"، الأمر الذي استغرق منهم ما يقرب من 8 شهور، في محاولة للاستغناء على العامل البشري بالكامل "كمان علشان نقدر نجمع أكتر من خدمة في مكان واحد"، وهذا من شأنه أن يعطي طابعًا مختلفًا للفكرة ويميزها عن المنصات الشبيهة التي جرى تداولها في بعض الدول الأوروبية، بحيث لا تقتصر فقط على الجمعيات الخيرية، بل تشمل المطاعم وما يمكن أن تقدمه من عروض على الوجبات، وكذلك المتبقي من الموائد المفتوحة في الفنادق الكبيرة "فيقدروا يبيعوه بنص الثمن من خلال الأبليكيشن"، أو التبرع به في حال أرادوا ذلك.
حرصت "شاهين" أن تغلف فكرتها بطابع عربي، فاختارت أن تحمل المنصة اسم "تكية" لشيوعه بين الناس وتقارب دلالته مع فكرة التطبيق؛ فمعناه التاريخي أنه هو المكان الذي كان يقصده الفقراء والمحتاجين من أجل البحث عن الطعام أو المأوى، أو المائدة الكبيرة التي تحوي كل أنواع الطعام ويتوافد عليها الناس كي يأخذوا منها ما يشتهون دون حساب "فلقيت إن دا الاسم المناسب"، وهو ما تراه يساعد على سهولة تداوله في كل دول العالم، في حالة قُدر للفكرة النجاح والانتشار على النحو الذي رسمته في مخيلتها.
تختلف آلية استخدام التطبيق حسب مستخدمه، فالجمعيات الخيرية لا بد وأن تحصل في البداية على موافقة إدارة التطبيق، وذلك للتأكد من أنهم يتعاملون مع كيان حقيقي غير وهمي كي يصل الطعام إلى مستحقيه "وعلشان تقدر تشوف الأكل المعروض للتبرع وبواقي موائد الأوبن بوفيه"، بخلاف المستخدم العادي الذي ينحصر ما يراه في عروض المطاعم والوجبات، وفي حالة واتته الرغبة في الشراء يؤكد طلبه "وبيكون مرفق معاه كل البيانات المتعلقة بالمكان"، أما الأشخاص الذين لا يملكون هواتف تمكنهم من الدخول إلى التطبيق، فيصلون إليهم من خلال الجمعيات الخيرية، لكنها تفكر مستقبلًا أن توفر لهم هواتف وتعرفهم بطريقة استخدامها، وهو ما يحتاج منها إلى ميزانية كبيرة ووقت أكبر.
لا يمكن أن تستوعب منة كل هذا العمل وحدها، لذا كونت فريقًا بتقاضى بعض أعضائه أجرًا بينما يعمل آخرون بشكل تطوعي، وعلى الرغم من أن تواصلهم الوحيد عبر الإنترنت لأنها تعيش خارج مصر ودائمة التنقل والسفر، إلا أنها تحرص على المحافظة على روح الفريق وانتظام العمل بين أعضائه، وذلك من خلال الاجتماعات الدورية التي تجريها مع رؤساء الأقسام، وإعطائها تقرير يومي مفصل بما حققه كل فرد.
صعوبات عديدة تواجه صاحبة تطبيق تكية، لكنها لا تلتفت إليها وتنتزع نفسها من أية معوقات مهما كلفها الأمر، فاستجابة الناس وتفاعلهم مع المنصة لم يكن سهلًا في البداية، لأن فكرة المنصة تتعارض مع الثقافة العامة السائدة عند عموم الناس وتقف على النقيض من التصورات العالقة بأذهانهم عن الطريقة التي يقدمون بها العمل الخيري "إحنا بنحاول نقنع شخص بعمل حاجة هو مش متعود عليها"، كذلك صعوبة اقتناع الكثير من أصحاب المطاعم والفنادق والسوبر ماركت بالتعاون معهم والتبرع بفائض الطعام، وهو ما يتغلبون عليه بتشجيعهم على بيع منتجاتهم عبر التطبيق دون مقابل "فيه ناس متحمسة وفيه ناس شايفة الموضوع غريب".
عَبرت منة بأمان فوق تلك العراقيل، حيث نجحوا خلال مدة وجيزة في الوصول إلى ما يقرب من 1000 مستخدمًا، و8 فنادق بالإضافة إلى 80 سوبر ماركت و20 مطعمًا، موزعين على القاهرة والشرقية وأسوان، ومؤخرًا دخلوا بمشروعهم إلى الإسكندرية، لكنها ما زالت تشكو من عدم حرص المطاعم على تحديث قائمة منتجاتها بشكل يومي، وهو ما يحتاج من أعضاء الفريق متابعة دورية مع أصحابها، كما يتطلب منهم تحفيز وتشجيع مستمر.
تعتبر الشابة الثلاثينية أن فكرة التطبيق هي محاولة للتغب على الطرق التقليدية في عمل الخير، وتطويع التكنولوجيا بالشكل الذي يسهل ذلك ويربط بين قطاع كبير من الجمعيات الخيرية وبين المتطوعين، كما تُعد تكية بالنسبة لها انتصارًا جديدًا للبيئة النظيفة التي ينشد الجميع العيش فيها من خلال القضاء على ظاهرة الطعام المُهدر، حيث تُعد مصر من أكبر البلدان المهدرة للطعام في العالم، فيما تمثل نسبة فائض الطعام لكل فرد حوالي 73 كيلوجرام سنويًا "ودا بيخلي فيه عبء كبير على البيئة من خلال انبعاثات ثاني أكسيد الكربون"، الأمر الذي يترك صانعي الطعام يعانون من فائض لا يتمكنون من بيعه أو الاستفادة منه، في الوقت الذي ينبش فيه الفقراء القمامة بحثًا عن لقمة يحاربون بها الجوع، أو مستهلكين تائهين عن وجبات في متناول يدهم.
لا تكف منة شاهين على المحاولة، أحلامها غير محدودة في خلق مجتمع أفضل يسعى فيه الأفراد إلى التغيير والقضاء على الظواهر السيئة، لذا أسست قبل سنوات مبادرة أخرى تًعرف باسم "هي تسافر" من أجل تشجيع الفتيات على خوض غمار تجربة السفر كي يتمكنوا من رؤية الكيفية التي يدور بها العالم حولهم "بنحاول نساعدهم إنهم يكوّنوا نسخة أفضل من أنفسهم"، ثم طورتها بعد ذلك إلى منصة إلكترونية، تضم مقالات عن السفر وفوائده، والنصائح والتعليمات التي يجب أن تلتزم بها الفتيات أثناء مكوثهم في دولة ما كي يحافظن على أنفسهن، بجانب محاضرات في التنمية البشرية وتوفير فرص عمل.
أحدثت الفكرة صدى كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، دفع أحد رجال الأعمال البارزين بمصر أن يثني عليها عبر حسابه الشخصي على تويتر، وهو ما انعكس داخل منة بالفخر والفرح، لكنها في الوقت ذاته ما زالت تنتظر الدعم من الجهات الرسمية "بحيث نقدر نتعاون ونشوف هنفيد المجتمع إزاي"، بينما تزايلها أحلام تطوير الفكرة وانتشارها في جميع دول الوطن العربي، وتوسيع مجالها بحيث تشمل المحاصيل الزراعية أيضًا، وكذلك توفير خدمات الشحن والتوصيل التي تمثل لها عبئًا كبيرًا، وبالنسبة لها يمكن أن يتحقق ذلك في حالة تبني أي مستثمر لفكرة التطبيق "لأن أنا وزوجي اللي شايلين الجانب المادي لوحدنا"، وهو ما يمكن أن يعوقها عن المواصلة والتطوير.