قصة تسليم المملكة لأخر ملوك الأشراف في جدة
تعتبر جدة هي المحطة الأخيرة في مرحلة حكم الأشراف في الحجاز وهي الأساس في توحيد المملكة بعد أن مني علي بن الحسين آخر حكامهم على الحجاز بهزيمة على يد جيش الملك عبدالعزيز بمكة في أكتوبر 1924.
ما اضطره إلى الفرار بقواته إلى جدة والتحصن فيها، وبعد نحو عام من محاصرة جيش الملك عبدالعزيز له أذعن لمطالب المؤسس ووافق على التنازل عن حكم الحجاز ومغادرة جدة من خلال اتفاقية وقعها الطرفان في يوم الخميس 17 ديسمبر، ما ضاعف من أهمية وقائع تسليم جدة باعتبارها الفصل الأخير في حكم الأشراف، ومنعطف بارز في توحيد المملكة.
وكشفت صحيفة أم القري تفاصيل تسليم مدينة جدة إلي الملك عبد العزيز في عددها رقم 52 الصادر يوم الأحد في 27 ديسمبر 1925، ويعد ما نشرته "أم القرى" صفحة من صفحات يوميات توحيد المملكة، إذ إنها نشرت تفاصيل وقائع التسليم بعناوين فقرات معبرة عن الأجواء التي كانت سائدة وقت وقوع الحدث.
وتحت عنوان "كيف تم تسليم جدة"، وعنوان فقرة "بين الهجوم والوجوم"، قالت "أم القرى": "يعلم الجميع ما كان من عظمة السلطان (الملك عبدالعزيز)، واختياره خطة الحصار على خطة الهجوم، لإنهاء هذه القضية ونشرنا مرات عديدة أن السبب في هذه الخطة هي الرغبة في حقن الدماء، وخشية أن يسبب الهجوم فوضى في البلدة، تنتج إصابة الأبرياء بما لم تكسبه أيديهم، ولكن في المدة الأخيرة تبين للناس أن الفوضى ستقع في البلدة هجم الجيش أو لم يهجم، للانحلال الذي أصاب حكومة جدة (حكم الأشراف)، في ماليتها ونظامها.
ولما رأى عظمة السلطان ذلك بعث مناشير للجند في جدة يحذرهم ثم أقام ينتظر النتائج، ولكن لم يتوسط شهر جمادى الأولى حتى وصل القيادة العليا، أن قسمًا من رجال الحول والطول في حكومة جدة يتآمرون على إحداث فوضى في البلدة ونهبها والإخلال فيها، ولما وصل هذا الخبر وتحقق أمره تقريبًا رأى عظمة السلطان أن ما كان يخشاه سيقع، وأن الحزم يقضي بتعجيل الهجوم، قبل أن تذهب الفوضى بالبلد وأهلها.
فأمر مساء الثلاثاء 29 جمادى الأولى القوة (تعزيزات عسكرية كبيرة بقيادة الأمير فيصل بن عبدالعزيز) التي وصلت جديدًا من الديار النجدية وخيمت في الأبطح أن تتحرك إلى الرغامة، وأمر فريقًا من الجيش الذي بدأ في المسير إلى ينبع أن يعدل عن طريقه ويرجع إلى جبهة جدة، وأصدر أمره العالي لأخيه الأمير عبدالله ونجله الأمير فيصل، أن يكونا على قدم الاستعداد للعمل، وفي ظهر الأربعاء ركب عظمة السلطان سيارته الخاصة وتوجه إلى الجبهة وقرر القيام بالهجوم يوم الجمعة.
مفاوضة التسليم
ولكن لم تبلغ السيارة السلطانية بحرة حتى شوهد في الطريق سيارة قادمة من جدة، وشوهد فيها المنشي إحسان الله أحد موظفي دار الاعتماد البريطانية في جدة يحمل من سعادة المعتمد الكتاب الآتي نصه: جدة في 16 ديسمبر 1925، سعادة صاحب العظمة السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود سلطان نجد، بعد الاحترام، مراعاة للإنسانية ولأجل تسهيل عودة السلام والرفاهية بالحجاز، أكون مسرورًا إذا تفضلتم عظمتكم بمقابلتي في الرغامة غدًا يوم الخميس بعد الظهر، أو بعد ذلك بأسرع ما يمكن، وتفضلوا بقبول وافر التحية وعظيم الاحترام. نائب معتمد وقنصل بريطانيا العظمى، وكيل قنصل جوردون.
ولما اطلع عظمة السلطان على هذا الكتاب أرسل لسعادة المعتمد البريطاني الجواب الآتي، الرغامة في 30 جمادى الأولى 1344هـ، من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى سعادة المعتمد البريطاني المستر جوردون المفخم. تحية وسلامًا، أتشرف بأن أخبر سعادتكم بأنني تناولت كتابكم المؤرخ 16 ديسمبر 1925، وفهمت ما تضمنه، حالًا حضرنا في (العرضي) لمقابلة سعادتكم في المحل الذي يخبركم به المنشي إحسان الله، هذا وتقبلوا فائق احتراماتي. الختم السلطاني.
وفي الساعة الرابعة من نهار الخميس وصل المعتمد البريطاني إلى مقر عظمة السلطان، وأخبره أن الحكومة البريطانية لا تزال على موقفها الحيادي في قضية الحجاز، ولكن بالنظر إلى ما عليه الموقف الحاضر في جدة، ولمعرفتي بمحبتكم للسلم وراحة المسلمين وحقن دمائهم، حقن دماء الأجانب، تقدمت إليكم بناءً على طلب الشريف على بن الحسين، وحكومته في التسليم، وأن توسطي في تقديم هذه الشروط لغاية إنسانية بحتة ليس إلا. فأجاب عظمة السلطان على ذلك بأنني ممنون في هذا على شرط أن تكون الشروط موافقة لنا. فأجاب المعتمد بأن الشروط نعرضها عليكم إذا وافقت رغباتكم يمكنكم قبولها. وبعد أن اطلع عظمة السلطان عليها قبلها مبدئيًا بعد إدخال شيء من التعديل عليها وهذا نصها:
اتفاقية التسليم
(1) بالنظر لتنازل الملك علي ومبارحته للحجاز وتسليم جدة يضمن السلطان عبدالعزيز لكل الموظفين الملكيين والحزبيين والأشراف وأهالي جدة عمومًا والعرب والسكان والقبائل وعوائلهم سلامتهم الشخصية وسلامة أموالهم.
(2) يتعهد الملك على أن يسلم في الحال جميع أسرى الحرب الموجودين بجدة إن وجد.
(3) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يمنح العفو العام لكل المذكورين أعلاه.
(4) يجب على جميع الضباط والعساكر أن يسلموا في الحال إلى السلطان عبدالعزيز جميع أسلحتهم من بنادق ورشاشات ومدافع وطيارات وخلافه وجميع المهمات الحربية.
(5) يتعهد الملك علي وجميع الضباط والعساكر بألا يخربوا أو يتصرفوا في الأسلحة والمهمات الحربية جميعها.
(6) يتعهد السلطان عبدالعزيز كافة الضباط والعساكر الذين يرغبون في العودة إلى أوطانهم ويتعهد بإعطائهم المصاريف اللازمة لسفرهم.
(7) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يوزع بنسبة معتدلة على كافة الضباط والعساكر مبلغ خمسة آلاف جنيه.
(8) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يبقي جميع موظفي الحكومة الملكيين في مراكزهم الذين يجد فيهم تأدية واجباتهم بأمانة.
(9) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يمنح الملك علي الحق في أن يأخذ معه الأمتعة الشخصية التي في حوزته بما في ذلك أوتومبيله وسجاجيده وخيوله.
(10) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يمنح عائلة آل الحسين جميع ممتلكاتهم الشخصية في الحجاز بشرط أن تكون هذه الممتلكات فعلًا من الموروثة ولا تشمل على الأملاك الثابتة المحولة من الأوقاف بمعرفة الحسين الشخصية، ولا على المباني التي يكون الحسين قد بناها في أثناء ملكه لما كان ملكًا على الحجاز.
(11) يتعهد الملك علي أن يبارح قبل يوم الثلاثاء المقبل مساء.
(12) جميع البواخر التي في ملك الحجاز وهي (الطويل ورشدي والرقمتين ورضوى) تصير ملكًا للسلطان عبدالعزيز ولكن السلطان يصرح إن لزم الأمر للباخرة رقمتين أن تستعمل لنقل الأمتعة الشخصية التابعة للملك علي المتنازل ثم ترجع.
(13) يتعهد الملك علي ورجاله وسكان جدة بألا يبيعوا أو يخربوا أو يتصرفوا في أي شيء من أملاك الحكومة مثل اللنشات والسنابيك وخلافه.
(14) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يمنح جميع السكان والضباط والعساكر الموجودين في ينبع الحقوق والامتيازات المذكورة بعاليه إلا فيما يختص بتوزيع النقود.
(15) يتعهد السلطان عبدالعزيز أن يمنح العفو للأشخاص المذكورة أسماؤهم أدناه أيضًا ضمن العفو العام وهم: عبدالوهاب ومحسن وبكري أبناء يحيى قزاز، وعبدالحي بن عابد قزاز، وأحمد وصالح أبناء عبدالرحمن قزاز، وإسماعيل بن يحيى قزاز، والشيخ محمد علي بتاوي وإخوانه إبراهيم وعبدالرحمن بتاوي وأبنائهم وأبناء عمهم حسن وزين بتاوي أبناء محمد نور والشيخ يوسف خشيرم، والشيخ عباس ولد يوسف خشيرم، والشيخ يوسف بسيوني والسيد أحمد السقاف، وعوائل وأموال جميع المذكورين آنفا.
(16) إن كان الملك علي أو رجاله في حال من الأحوال يخالف أو يقصر في تنفيذ أي مادة من المواد المذكورة بعاليه فإن السلطان عبدالعزيز لا يعتبر نفسه في تلك الحالة مسؤولًا عن تأدية ما عليه في تلك الاتفاقية.
(17) يتعهد الطرفان السلطان عبدالعزيز والملك علي أن يكفا عن أي حركة عدائية أثناء سير هذه المفاوضة.
وفي عصر الخميس الأول من جمادى الثانية 1344هـ أمضى عظمة السلطان هذه الاتفاقية وفي الساعة السادسة ليلًا من المساء أمضاها الشريف علي واعتبرت نافذة من ذلك الوقت.
الشريف علي في البارجة
وقد مضى يوما الجمعة والسبت بكل هدوء في جدة وأخذ الضباط والجنود فيها يستعدون للتسليم، وكان المنتظر أن الشريف عليًا يغادر جدة يوم الثلاثاء ولكن ترتيب التنظيم للتسليم قد يصعب مع وجوده لذلك تقرر سفره من البلدة، وأن يقيم في السفينة التي تقله إلى عدن ريثما تتم وسائل الانتقال التي تحدد لنهايتها يوم الثلاثاء وفي الساعة الرابعة من صباح الأحد 4 جمادي الثانية ركب زورقًا بخاريًا إلى البارجة البريطانية (كارن فلاور) ثم لحق به الشريف شاكر وكاتبه عبدالله رشيد وبعض نفر من خدمه.
الاستلام
وفي مساء الأحد عاد المعتمد البريطاني إلى الرغامة وأخبر عظمة السلطان أن الشريف عليًا قد أقام في البارجة البريطانية وأنه قرر السفر إلى عدن ومنها إلى العراق حيث يقيم نهائيًا، وأنه (المعتمد) يرى أنه وظيفته في التوسط ستنتهي في صباح الغد ويقدم لعظمة السلطان رئيس الحكومة المؤقتة وهو القائم مقام عبدالله زينل ورئيس القوة العسكرية الضابط صادق بك، فشكر عظمة السلطان سعيه.
وفي صباح الاثنين قدم إلى المقر العالي المعتمد البريطاني ومعه رئيس الملكية ورئيس العسكرية فدخل سرادق عظمة السلطان وكان فيه كثير من الضيوف ورجال الخاصة وبعد أن استقر بهم المجلس قال سعادة المعتمد ما يتلخص بأن المهمة الإنسانية التي سعيت لها وهي التوسط في حقن الدماء قد انتهت وإنني أقدم بصورة رسمية رئيس الملكية ورئيس العسكرية ليكونا مسؤولين أمام عظمتكم، فأجاب عظمة السلطان شاكرًا مثنيًا على همة المعتمد التي بذلها في هذا السبيل، ثم رجع المعتمد إلى جدة وأقام الرئيسان يتذاكران مع عظمة السلطان في الترتيب الذي رتب من أجل ضبط جميع ممتلكات الحكومة والأشياء التابعة لها.
وانقضى ذلك النهار باستقبال الوفود التي قدمت من جدة لتهنئة عظمة السلطان بما أتم الله على يديه، ولقد كان في جملتهم الأشراف والعلماء والأعيان وفيهم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد نصيف والشيخ قاسم زينل وكثير ممن لم تحضر أسماؤهم والموظفين والكل كان مسرورًا ومستبشرًا بانقضاء هذه الأزمة على هذا الشكل السلمي الذي حقنت فيه الدماء وفتحت فيه السبل".