د. نصار عبدالله يكتب: فى ذكرى نجيب محفوظ
فى الثلاثين من شهر أغسطس فى كل عام تحل ذكرى رحيل نجيب محفوظ أعظم الروائيين العرب فى القرن العشرين وربما أيضا على مدى جميع القرون، وواحد من أعظم الروائيين على مستوى العالم بأكمله، يكفى فى هذا المجال أن أقول إننى عندما قدر لى أن أزر كولومبيا فى عام 2000 ممثلا لمصر فى ملتقى الشعراء العالمى الذى يعقد فى مدينة مدلين كل عام والذى يحضره جمهور يقدر بعشرات الآلاف، ولهذا السبب فإنه يعقد فى الاستاد الرياضى حتى يتسع لهذا الجمهور الغفير العاشق للشعر والأدب (هذه هى إحدى مفارقات كولومبيا التى لا يعرف عنها الناس إلا أنها المصدر الأول لإنتاج الكوكايين فى العالم).. عندما ذهبت إلى كولومبيا فوجئت بأن الكولومبيين وأدباء أمريكا اللاتينية عموما لا يعرفون شيئا عن مصر إلا أنها البلد التى أنجبت جمال عبدالناصر ونجيب محفوظ، أما أطرف الشخصيات التى تعرفت عليها فى ذلك الملتقى فقد كانت عايدة بيراجا، وعايدة بيرّاجا مهندسة من السلفادور، تركت مهنة الهندسة وتفرغت للفن والكتابة والإعلام!!.. هى الآن ممثلة مسرحية ومقدمة برامج تليفزيونية، فضلا عن أنها قبل ذلك شاعرة بديعة، وقد التقيت بها لأول مرة فى مطار العاصمة الكولومبية بوجوتا، عندما كنت متوجها إلى مدينة ميدلين لحضور الملتقى الشعرى حيث عرفت منها أنها هى نفسها متوجهة لنفس المدينة لحضور المؤتمر ذاته ممثلة لدولتها السلفادور!!...وحينما عرفت أننى مصرى تهلل وجهها وشدت على يدى مرحبة وهى تقول: «أنت إذن من بلد نجيب محفوظ»، ... تقابلنا بعد ذلك عدة مرات فى ميدلين، وفى كل مرة كانت لا تكف عن إبداء إعجابها بنجيب محفوظ، قالت لى: نحن مواطنو السلفادور، وأعتقد أن الأمر كذلك فى كولومبيا، بل وفى كل بلاد أمريكا اللاتينية، نحن لا نعرف شيئا عن مصر المعاصرة سوى أنها هى التى أنجبت زعيم العرب العظيم جمال عبدالناصر وأديب العرب العظيم نجيب محفوظ، ...بالنسبة لجمال عبدالناصر فإننا ـ أبناء أمريكا اللاتينية ـ منقسمون بشأنه!! بعضنا يحبونه ويعشقونه إلى حد العبادة مثلما يحبون جيفارا، بينما يكرههه بعضنا الآخر كراهية العمى ولا يطيقون ذكر اسمه (أيضا مثل جيفارا)، لكن الأمر مختلف بالنسبة لنجيب محفوظ، إذ أننا جميعا بلا استثناء نحبه ونقدره ونعشقه، الذين يحبون عبدالناصر وجيفارا، والذين يكرهونهما، كلا الفريقين يحب نجيب محفوظ!!..المثقفون والقراء العاديون يعرفون اسمه من خلال الترجمات الإسبانية لأعماله أما عامة الناس فيعرفون اسمه من خلال فيلم سينمائى مكسيكى ناجح مأخوذ من أحد أعماله، وبوجه عام فهو فى مقدمة الأدباء المفضلين فى كل أرجاء أمريكا اللاتينية، أما بالنسبة لى شخصيا (والكلام لايزال لعايدة) فهو الكاتب الأول المفضل بلا منازع !!..هل تتصور أننى عندما قرأت الثلاثية فى ترجمتها الإسبانية ظللت بعد ذلك أياما عديدة واقعة فى أسر جوها العام، ظللت أياما أشعر بأننى أعيش فى القاهرة التى لم أرها والتى يستحيل أن أراها على الطبيعة لأنها ببساطة ليست القاهرة الآن ولكنها تلك التى كانت منذ قرن من الزمان، ومع هذا فقد استطاع ذلك العبقرى الفذ أن يستعيدها حية ونابضة فى وجدان واحدة مثلى لا تعرف حرفا واحدا من العربية!، ثم هل تصدق أننى أحسست بالسرور الغامر وأنا أطالع صفحاتها حين اكتشفت أن اسم محبوبة البطل هو عايدة، لقد تملكنى حينها زهو حقيقى وكأننى أنا ـ عايدة بيراجا ـ شخصيا هى التى يتخذ منها كمال عبدالجواد قبلة لأحلامه وينسج حولها تلك الهالة الرومانسية التى تجعل منها شيئا فوق مستوى البشر!!.. لقد شاهدت أوبرا عايدة أكثر من مرة لكننى لم أشعر بأننى أنتمى إلى بطلتها مثلما أحسست بانتمائى الإنسانى إلى عايدة فى الثلاثية، وإذا جاز لى أن أقارن بين العبقريتين فإن عبقرية محفوظ متفوقة على عبقرية فيردى!!.. أيام انعقاد المؤتمر تأكد لى مدى صدق مقولة عايدة بيراجا وهى أن أحدا من الحاضرين من أبناء أمريكا اللاتينية لا يعرف شيئا عن مصر المعاصرة سوى أنها بلد نجيب محفوظ، وعندما انتهى المؤتمر وتأهبنا للعودة إلى بلادنا حرص الكثيرون على أن أحمل تحياتهم إلى أديب الإنسانية الكبير، وهكذا عدت إلى القاهرة محملا بالعديد من الرسائل الشفوية والمكتوبة التى نقلتها بدورى إذ ذاك إلى أديبنا الكبير، والتى كان لها وقع طيب فى نفسه إذ أنه لم يكن يتصور أن مكانته فى نفوس أبناء أمريكا اللاتينية تنافس، بل ربما تفوق ـ لدى الكثيرين منهم ـ مكانة أديبهم العظيم جارثيا ماركيز.