سليم صفي الدين يكتب: آفة حارتنا "رفض الاختلاف"

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


- حملت ذات يوم الفكرى السلفى الجهادى، وكنت مؤمنًا بكل الأفكار المتخلفة الرافضة للحرية والإنسانية والتعايش والسلام، ومع أول اصطدام حقيقى وتعرض للأفكار المختلفة بمنطق وسلاسة وفلسفة، بدأت وجهتى فى التغير رويدًا رويدًا، وانتقلت من معسكر البحث فى الإسلام إلى التطرق إلى الأديان كلها، ثم التعرض دون خوف للأفكار كافة. كنت حذرًا إذ لاحظت فى نفسى التطرف للأفكار التى أكتسبها، فقررت العدول عن فكرة الإيمان المطلق بالأفكار من جهة، ونقد ونقض تلك الأفكار من جهة أخرى، ومن حينها عرفت قبول الآخر، واحترام الذات، وقبول الرأى فى ما أطرح أو أناقش مهما كان، ومهما اختلف عنى ومعى من أناقشه.

- على أثر ذلك انتقلت عبر سنوات من الصراع، من أقصى الأفكار الدوجمائية المجرمة، إلى الأفكار العلمانية المتحررة، وأقصد بالعلمانية منهج التفكير النسبى، والتحرر بما هو فى العقل والفكر، وقد عرضت لذلك الصراع فى مقال نشر عبر "الفجر" حمل عنوان "من الجهاد فى سوريا إلى حب الفلسفة والموسيقى"، ومن قبله قصة قصيرة نشرت عبر موقع عربى حملت عنوان "بين فراقين.. صديقى الذى لم يعد". 

- حين كنت قابعًا بين جنبات التطرف الدينى لم أكن أقبل سوى من يتقولب معى -بالأحرى معنا- فى القالب نفسه، فالمسلمون أنفسهم كانوا كفارًا فى نظرى، حتى من يصلى منهم ومن يصوم! وعندما تعرضت للفسلفة وما بها من تحرر للعقل والفكر، ونسبية التفكير العلمانى، ومنهج محمد أركون فى أنسنة الأديان، وشروحات عبد الجواد ياسين فى التفريق بين الدين والتدين، وتحليلات نصر حامد أبو زيد للأفكار قديمًا وحديثًا، وما أحدثته فلسفة برتراند راسل وباشلار فى نفسى، أدركت معنى الاختلاف وضرورة التعايش به، فلم أعد اشغل بالى بمن ارتدت الحجاب ومن خلعته، ومن أسلم ومن ألحد، ومن ذهب إلى المسيحية ومن تركها، بل أصبح شغلى الشاغل هو: هل هذا الرجل أو هذه السيدة فعل أو فعلت ذلك بإرادة حرة أم لا؟ فكل إنسان له الحق فى اختيار دينه وأفكاره ومظهره، بكل حرية ودون ضغط أو إجبار.

- مع الوقت، اكتشفت أن بعض المنادين بالحرية لا يختلفون كثيرًا عن المتدينين فى فرض الوصاية، وأن الأفكار فى مصر والعالم العربى ما هى إلا مجموعة من القوالب التى يجب عليك التقوقع داخلها، لتصبح واحدًا من حَمَلتها! الإشكالية أن هذه الأفكار ذاتها هى مطرقة لهدم القوالب ودحض الجمود ورفض أحادية الاتجاه، ومع هذا تجد كثيرًا ممن ينادون بالحرية والتحرر والتنوير متطرفين فى رفض الغير، فتجد ملحدًا يرى كل الأديان خرافة، وهذا حقه، يحتقر كل المؤمنين، وهذا ليس من حقه. كما تجد من بين دعاة الحرية مَن يرون أصحاب الأديان قطيعًا لا عقل لهم!

- لا أذكر يوما أننى صرحت على العلن بانتمائى الدينى، فالدين أمر شخصى جدًّا، يخص كل إنسان على حدة، وبالتالى لا يحق لأحد أن يسأل أى شخص عن دينه، والتعاملات الإنسانية قائمة على السلام والتعايش، وليس على الدين والمظهر، وإلا ما الفرق بين هؤلاء المدعين وبين السلفيين؟

- فى الآونة الأخيرة غبت عن "فيسبوك" بضعة أيام، أخذنى فيها العمل والقراءة، وقررت أن أعود بشكل مختلف، حتى أرى كيف يستقبل الناس اختلافى وتغيرى، فكتبت ما فحواه أننى عدت إلى بعض مظاهر التدين! فكانت الفاجعة.. سب وشتم واتهامات بالرجوع إلى "داعش"، ونعت بأننى عديم الفكر مدعٍ، ولا أملك أى نوع من الأخلاق، والأغرب قول البعض إننى "عدت إلى الإسلام المجرم"! اتهام مجحف وقح لدين يتبعه ملايين الناس حول العالم بالإجرام، وبالتبعية فهم كذلك مجرمون!

ومن دون استئذان أُخِذَت صورى الشخصية وتم التشهير بى، ولم يقل أىٌّ ممن فعلوا هذا إننى حر فى اختيار أفكارى، وإن هذا حقى ما دمت فعلته عن إردة حرة، ولم أوذِ به أحدًا! بل ظهر تطرف الأيديولوجيات وجمود الفكر وعدم تقبل الآخر. الأزمة أن كثيرًا من هؤلاء الذين يتصدون للمطالبة بالحرية ليل نهار، خرجوا من صف الدين أحادى الاتجاه، إلى صف آخر يملك الأحادية والاصطفاف نفسهما دون وعى بأن ما لبسوه لا يختلف إطلاقًا عما تركوه. 

- الانتقال من فكر إلى آخر يجب أن يكون بالعقل، وليس بالتوجه والتوجيه، فلا فرق بين من يتهمون دعاة بالحرية بـ"الانحلال"، ومن يرى -فى الجانب الآخر- أن كل من تبع هذا الدين أو ذاك إرهابى ومجرم.

- هذا الهراء الفكرى لن ينتهى إلا بمحاكم تفتيش يقوم بها الناس بدلاً من الحكومات والأديان. والحل هو تقبل الآخر مهما اختلف دينه أو عرقه أو مظهره. فلا المحجبة متخلفة، ولا الإسلام مجرم، ولا المنادون بالحرية كفرة ويدعون إلى الانحلال. الإنسان هو هو، بما هو عليه، وبما اختار أن يكون بإرادته الحرة، وليس بما يجب أن يكونه من وجهة نظر كل فصيل.