تفسير الشعراوي للآية 49 من سورة الأنفال
تفسير الشعراوي للآية 49 من سورة الأنفال
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(49)}
(المنافق) كلمة مأخوذة من نافقاء اليربوع، وهو حيوان يشبه الفأر يعيش في الجبال في سراديب، وحين يتتبعه حيوان آخر ليفترسه، فهو يسرع إلى جحره الذي يشبه السرداب، وهو يفتح أكثر من فتحة لهذا الجحر لتكون مخارج له، ومثل هذه الفتحات كالأبواب الخلفية، فينجو من الافتراس، فكأنه فتح لنفسه نفقاً، ينافق منه غيره فلا يقوى على اللحاق به. ولذلك نجد المنافق متعارضاً مع نفسه؛ ينطق لسانه بما لا يؤمن به، وبينما المؤمن منسجم النفس؛ ينطق لسانه بما في قلبه، والكافر أيضا كذلك منسجم ينطق لسانه بما في قلبه من الكفر، ولكن المنافق متخبط مع نفسه، لسانه يقول كلمات الإيمان وقلبه يضمر الكفر، وهكذا تتعاند ملكات المنافق، وحينما يكون القلب واللسان متعاندين لا توجد راحة نفسية، وحسبك من المنافق أنه متعاند في الملكات.
ويصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين بقوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
إذن فالذاتية ضائعة؛ لأن الإنسان لا يفقد ذاته حينما تكون ملكاته منسجمة ولا توجد ملكة تعارض ملكة أخرى ويكون عمله متوازناً، ولكن الذي تتعاند ملكاته يعيش دائما في قلق نفسي وحيرة. ولذلك يحاول أن يهرب من واقعه، فيلجأ إلى المخدرات أو غيرها، وليس الحل بأن يخدر الإنسان نفسه أمام الأحداث، ولكن لابد أن يواجه الإنسان الأحداث ويحاول إيجاد حل لها، والمنافق لا يقدر على ذلك فينهار، ويقول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
وبعد أن ينتصر المؤمنون نجدهم وهم يزدادون إيماناً وثقة في أنفسهم، وتملؤهم عزة الإيمان، فينظر إليهم المنافقون بحسد وحقد؛ لأنهم يكرهون المؤمنين؛ ولا يتمنون لهم خيراً، فهم في نفاقهم كفار، في قلوبهم غل للمؤمنين يخاطب بعضهم البعض ويقولون: أصاب هؤلاء الغرور بدينهم. ولكن ما أصاب المؤمنين ليس غروراً؛ لأن معنى الغرور أن تغار بخصلة فيك تجعلك متفوقاً على غيرك؛ والمؤمن ساعة النصر لا يغتر بنفسه ولكنه يعتز بالله القوي العزيز، ويزداد تواضعاً له ويكون مشغولاً بشكر الله على ما حققه له من نصر، أما المغرور فهو من يعزل النعمة عن المنعم وينسبها لنفسه. والمؤمنون ينسبون كل شيء لله تبارك وتعالى؛ لأنهم يعلمون أن النعمة عطاء من يد الله الممدودة بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وما دامت النعمة لم تبعد الإنسان عن الله، فإن الله يزيده منها؛ لأنه مأمون على النعمة وينسبها لصاحبها، والمغرور يستعلي بأي خصلة يتميز بها عكس المؤمن الذي لا يستعلي أبداً بها؛ لأنه يعلم أنه لا ذاتية له، وأن الفضل لله تعالى، وذلك يقول الحق تبارك وتعالى وهو يصف المؤمنين: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
والشدة هنا ليست غروراً، ولكنها طبع وملكة، ولو كانت غروراً لبقيت كما هي، ولكن المؤمن شديد على الكفار ذليل على المؤمنين لا يتكبر عليهم أبداً، ولا يمكن أن يجعله إيمانه في قالب جامد؛ لأن الإيمان يعطي المؤمنين مرونة أمام الأحداث، لذلك نجد المؤمن لا هو شديد على إطلاقه، لأن هناك مواقف تتطلب الرحمة في التعامل مع المؤمنين، ولا هو رحيم على إطلاقه؛ لأن هناك مواقف تتطلب الشدة في مواجهة الكفار.
وكان سيدنا أبو بكر- رضي الله عنه- معروفاً بأنه كان كثير البكاء من خوفه وخشيته لله؛ وقلبه مليء بالرحمة على المؤمنين. ولكن عندما جاءت حرب الردة لمانعي الزكاة ماذا حدث؟. جلس هو وعمر بن الخطاب، والمعروف عن عمر أنه كان شديدا، وجلسا يتشاوران، وكان رأي عمر ألا يقاتلوا من ارتدوا بإنكارهم ومنعهم الزكاة؛ لأنهم قالوا: لا إله إلا الله، فقال له أبو بكر: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه).
هذا هو أبو بكر الذي عُرف عنه أنه كان كثير البكاء من خشية الله تعالى، وكان قلبه يمتلىء بالرحمة للمؤمنين. إنه يعلن في قوة وشدة في الحق أنه سوف يقاتل الخارجين على حدود الله والمانعين المنكرين للزكاة. ولو أن هذا الأمر حدث من عمر لقال الناس: شدة ألفناها، ولكن أن يحدث هذا الأمر من هذا الرجل الطيب الرحيم المطبوع على الرقة وعلى اللين؛ فهو أمر يبين لنا شدة المؤمن في مواجهة الكفر. المؤمن- إذن- لا هو مطبوع على الشدة المطلقة ولا هو مطبوع على الرحمة المطلقة، لكنه شديد حين تكون الشدة مطلوبة للدين، ورحيم حينما تكون الرحمة مطلوبة للدين، وعزيز حين تكون العزة للدين، وذليل حين تكون الذلة للدين. إذن فقول المنافقين: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} لا يستند إلى حكم صحيح، بل هو مما يمليه عليهم نفاقهم، لماذا؟.
لأن المؤمنين يتوكلون على الله دائما وينسبون كل الفضل لله تعالى: {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
وما دام الله عزيزاً فالذي آمن به عزيز، وسبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وما دام الله حكيماً فهو يعطي الحكمة للمؤمنين، والتوكل على الله معناه أن تكل كل أمورك إليه سبحانه وتعالى، وأول هذه الأمور أنه أمرك بالأخذ بالأسباب، فلا تترك الأسباب أبداً، بل خذ بها دائما مع التوكل عليه فإذا لم تسعفك فهناك المسبب. فقد قال الحق تبارك وتعالى لعباده المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
وأمرنا سبحانه وتعالى: بالسعي فقال عز وجل: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15].
فهو سبحانه وتعالى كما أمر المؤمنين بأن يقاتلوا ويأخذوا بالأسباب؛ لأنه سبحانه يريد أن يعذب الكفار بأيدي المؤمنين، أمرهم سبحانه وتعالى كذلك أن يسعوا في سبيل الرزق.
وأنت حين تتواكل تنقل صفة إلى صفة؛ لأن التوكل عمل القلوب، والعمل تقوم به الجوارح، فلا تجعل التواكل عمل الجوارح؛ لأن الجوارح تعمل بالأسباب. والقلوب تتوكل على الله، وهكذا نفهم أن التوكل الحقيقي للجوارح هو أن تعمل ولذلك فلابد من العمل والأخذ بالأسباب مع التوكل، ولابد لنا أن ننتبه إلى المنافقين في بدر الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
والمنافقون- كما قلنا- هم القوم الذين تتصارع ملكاتهم، وما على ألسنتهم يتناقض مع ما في صدورهم، أما الذين في قلوبهم مرض فهم ضعيفو الإيمان؛ مسلمون ساعة الرخاء؛ فارون من الدين ساعة الشدة. إذن فهناك فريقان ذكرهما الحق سبحانه وتعالى؛ المنافقون وهؤلاء كانوا من الأوس والخزرج ملكاتهم متضاربة؛ لأنهم كانوا يريدون السيادة على المدينة. وواحد منهم كان ينتظر أن يلبس تاج الملك، وبمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تنتهي منه هذه الفرصة وتضيع فرصة الملك والزعامة، وقد أوجد ذلك في نفسه حقداً وغيظاً. ولكن ظاهرة الإقبال من أهل المدينة كلهم على الإيمان والدخول في الإسلام؛ جعلت هؤلاء المنافقين لا يستطيعون المقاومة؛ لذلك نطقوا الشهادتين بألسنتهم وبقي في قلوبهم حقد وضغينة على الإسلام، فالواحد منهم تتجاذبه ناحيتان متعارضتان.
والذين في قلوبهم مرض ليسوا منافقين ولكنهم ضعيفو الإسلام، وقد دخلوا إلى الدين ليأخذوا وهم لا يعطون، فإذا أعطاهم الإسلام بعضاً من نعم الدنيا فرحوا بها، وإذا أصابتهم شدة هربوا. ومن هؤلاء بعض الذين أسلموا في مكة. ولكن إسلامهم لم يصل بهم إلى أن يهاجروا إلى المدينة؛ خوفا من أن يتركوا أموالهم وأولادهم فظلوا في مكة، ومرضى القلوب هؤلاء لا يعدمون الحياة؛ لأن المرض لا يعدم الحياة، لكنهم كانوا يعانون من عدم صحة الإيمان، ولما جاءت عملية القتال في غزوة بدر تشاوروا: أيذهبون مع الكفار أو لا يذهبون؟ ومع أي من الفريقين يقاتلون؟، وقالوا: نخرج مع الكفار فإن وجدنا أنهم أقوى كنا معهم، وإن وجدنا المسلمين هم الأقوياء انضممنا إليهم.
ومن هؤلاء قيس بن الوليد المغيرة وعلي بن أمية بن خلف والعاصي ابن منيه بن الحجاج والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وأبو القيس بن الفاكه ابن المغيرة. وتجمع هؤلاء مع بعضهم وذهبوا إلى المعركة لينضموا إلى المنتصر، مؤمنا كان أو كافرا. وهم أخذوا هذا الموقف؛ لأن صحة الإيمان في قلوب هؤلاء غير موجودة فهم أصحاب قلوب مريضة ومتعلقة بحب الدنيا.
وما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض يدل على الرغبة في اتقاء الضرر، مع أن هؤلاء في المدينة وهؤلاء في مكة ولكنهم قالوا شيئاً واحداً، وهذا دليل على أن إغواء الشيطان للفريقين كان واحداً. ولذلك اتحدت العبارة. وقال هؤلاء وهؤلاء: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ}.
قالها الفريقان(فريق المنافقين وفريق الذين في قلوبهم مرض) مع اختلاف المكان، فبعضهم- كما علمنا- من مكة وبعضهم من المدينة. إذن فلابد من وجود قاسم مشترك دفعهم أن يقولوا قولاً واحداً، أي أن الشيطان وسوس إليهم بهذه العبارة. ولذلك كان الوجب أن ينتبهوا إلى أن اتفاق القول دليل إغواء الشيطان لهم.
وما معنى: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ}.
غررت فلاناً أي زينت له الأمر تزييناً بحيث يقبل عليه إقبالاً لا ترشحه قوته له، وقويت استعداده لكي يقوم به، فإذا جئت لإنسان محدود الدخل مثلاً وأردت أن تغريه بشراء سيارة. فأنت تقول لتزين له المسألة: اقترض من فلان وفلان وادفع الباقي بالتقسيط، كأنك تغريه أن يتخذ موقفاً غير موقفه الذي كان ينوي القيام به.
ولكن ما وجه الغرور في الدين؟.
إن المؤمنين المغترين بدينهم قد أحسوا بكثرتهم رغم أن عددهم قليل. فأقبلوا على الحرب بالرؤيا التي أراها الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن عدد الكفار قليل، وبوعد الله لهم بالنصر، أو غرهم بأن أوضح لهم أنَّ الذي يموت مقتولاً في هذه الحرب يصير شهيداً وتكتب له حياة خالدة، وقد جعل ذلك القوي منهم والضعيف يقاتلان بقوة؛ لأن الشهيد سيذهب إلى الجنة. وهكذا- في رأي المنافقين- اغتر المؤمنون بدينهم.
ويرد الله عز وجل عليهم بقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
هذا هو الرد عليهم في أن المؤمنين لم يغرهم دينهم، بل إنهم متوكلون على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، وسبحانه عزيز لا يغلب، وحكيم يضع الهزيمة في موضعها والنصر في موضعه.
إذن فالمسألة أن هؤلاء المؤمنين قد اختاروا الله فأعزهم ونصرهم.
ولكن هل قيلت هذه العبارة من المنافقين علناً؟. لا، إنهم لم يجرءوا أن يعلنوها بل قالوها سّراً في أنفسهم، فأعلم الله سبحانه وتعالى رسوله بما حدث في نفوسهم، وكانت هذه لفتة من الله سبحانه وتعالى بأن فضح حقيقتهم لعلهم ساعة يسمعون ما يدور في نفوسهم؛ قد يتركون نفاقهم ويعودون إلى حظيرة الإيمان الصحيح، خصوصاً إذا انتبهوا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
ففي هذه الآية الكريمة يوضح الله سبحانه وتعالى موقف المؤمنين في كل معركة يخوضونها، فهم إما أن ينتصروا ويهزموا الكفار ويقتلوهم ويأخذوا غنائمهم، وإما أن يستشهدوا فيدخلوا الجنة، وكلّ من الأمرين خير. وكشف الحق ما يدور في صدور المنافقين، وكان ذلك تنبيهاً للمؤمنين بألا يؤثر فيهم كلام المنافقين؛ لأن المؤمنين قد توكلوا على الله والله غالب على أمره.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة...}.